كثر الحديث هذه الأيام عن التصالح في جرائم المال العام, تلك الأيام التي تشهد فيه مصرنا الحبيبة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية شتي. فهل تصالح إذا منحوك الذهب هذا هو السؤال, وماهي الرؤية القانونية. أبادر إلي القول أننا لا نطرح بحال من الأحوال فكرة التصالح في جرائم الدم فتلك مسألة خارج دائرة البحث, وإنما يقتصر حديثنا علي التصالح في جرائم الاعتداء علي المال العام. ففي الثالث من يناير الماضي, أصدر المجلس العسكري مرسوما بقانون رقم4 لسنة2012 بتعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار الصادر بالقانون رقم8 لسنة1997, يجيز التصالح مع المستثمر في جرائم المال العام بما يترتب عليه من انقضاء الدعوي الجنائية ضده. ولنا علي هذا المرسوم بقانون جملة ملاحظات نعرضها بحيادية وموضوعية بحتة علي النحو التالي: أولا: صدر هذا المرسوم في الفترة الانتقالية ما بين انتخابات تشريعية نظيفة, وقبل انعقاد أولي جلسات برلمان الثورة الجديد في الثالث والعشرين من يناير الماضي أي قبل بدء مباشرة البرلمان وظيفتيه الأصليتين في الرقابة والتشريع. وفي هذه الفترة الانتقالية كان يجوز من الناحية الدستورية للمجلس العسكري أن يصدر من القوانين ما يصدره البرلمان في الظروف العادية, أي أن المجلس العسكري كان يجمع في هذه المرحلة الانتقالية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومن ثم فلا محل لادعاء البعض بعدم دستورية القانون المذكور من هذه الوجهة, وذلك لكون الإعلانين الدستوريين الصادرين في13 فبراير2011, و30 مارس2011 يمنحان المجلس العسكري حقا أصيلا في إصدار مراسيم بالقوانين خلال فترات سريانها. أضف إلي ذلك أن المرسوم بقانون رقم4 لسنة2012 قد جاء بتعديل بعض أحكام قانون ضمانات وحوافز الاستثمار, ولا يخفي عن كل مطلع فطن ما يلحق اقتصاد بلادنا يوميا من تأثير سلبي, وتذبذب في مؤشرات البورصة واستنزاف للاحتياطي النقدي. وعلي ذلك فإن مسألة الإسراع بإصدار القانون رقم4 لسنة2012 كانت تحكمها ضرورة اقتصادية ملحة, كإحدي الآليات الدافعة إلي تحسين مناخ الاستثمار في مصر دون أن يكون الغرض من إصداره في هذا التوقيت تفويت الفرصة علي المجلس التشريعي الجديد في دراسته. ثانيا: أن مسألة سن التشريعات الجنائية بوجه عام تخضع من الناحية الفقهية لمبدأين أساسيين. الأول مبدأ الشرعية, ومعناه أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص, وأن كل من ارتكب سلوكا إجراميا لا مفر من عقابه, وذلك بصرف النظر عما إذا كانت تلك العقوبة تحقق للمجتمع نفعا من عدمه. ثم ظهر بعد ذلك, علي إثر الغلو في تطبيق مبدأ الشرعية مبدأ جديد هو مبدأ النفعية أو المنفعة الاجتماعية, فتبني الفكر القانوني والتشريعات الأجنبية بواسطة المبدأ الجديد, اتجاه يقرر أنه كلما كان النفع الذي يعود علي المجتمع من وراء عدم توقيع العقوبة أكبر من الفائدة التي يحققها هذا الأخير من تنفيذها, يتعين استبعاد العقوبة. إلا أن هذه السياسة الجنائية الحديثة لا تطبق في جميع الجرائم علي إطلاقها, وإنما تقتصر فحسب علي الجرائم ذات الطبيعة المالية, مع عدم إهدار فكرة الردع قدر المستطاع. ثالثا: يقرر القانون رقم4 لسنة2012 في المادة7 مكرر أنه'' يجوز التصالح''. ومعني ذلك آلية التصالح هي في جميع الأحوال جوازية للدولة, وليس واجبا أو لزاما عليها. فالطلب الذي يقدم للدولة للتصالح يخضع للسلطة التقديرية لها, فلها أن تقبله ولها أن ترفضه. فقد تري أن مقدم الطلب يجمع بين صفتين, أولاهما وهي صفته كمستثمر تجيز له التصالح, وثانيتهما وهي صفتة كسياسي بارز أو كقيادي حزبي استغل منصبه لا تجيز له التصالح, فتقرر الدولة في ضوء هذا التعارض في المصالح, وفقا لسلطتها التقديرية التي منحتها إياها المادة7 مكرر من القانون المذكور رفض التصالح. رابعا: أن القانون لا يجيز التصالح مع الوزير أو رئيس الوزراء أو أي موظف عام بأي حال من الأحوال. فقد ورد بالفقرة الأولي من المادة7 مكرر أنه يجوز التصالح مع المستثمر, وجاء بالفقرة الأخيرة من هذه المادة أنه يترتب علي تمام التصالح انقضاء الدعوي الجنائية بالنسبة للمستثمر, ولا يمتد الانقضاء لباقي المتهمين معه في ذات الواقعة ولا يستفيدون منه. أي أن ما أثاره البعض من أن الغرض من القانون المذكور هو تخليص نزلاء سجن طرة من رموز النظام السابق غير وارد علي الإطلاق لكون قانون التصالح في فقرته الأخيرة لا ينطبق علي مركزهم القانوني بأي حال من الأحوال. وبعبارة أخري, فإن ما صدر عن بعضهم من عروض للتنازل عن ثرواتهم مقابل إنهاء القضايا التي صدر عليهم حكم فيها أو مازالوا متهمين فيها أو كانت قيد التحقيقات, لايعدو أن يكون مجرد إبداء لإرادة منفردة من جانبهم, أو مجرد مبادرات شخصية لا تربطها أدني صلة بالقانون الجديد, أو تستقيم مع صحيح نصوصه. فالأمر لا يخرج عن كونه مجرد تناول إعلامي لأمر يستحيل تطبيقه قانونا من خلال المرسوم بقانون رقم(4) لسنة.2012 خامسا: أن قانون التصالح الجديد رقم4 لسنة2012 ليس الأول من نوعه في النظام القانوني المصري. فقد سبق أن أصدر المشرع القانون رقم88 لسنة2003 المعدل بالقانون رقم162 لسنة2004, المعروف باسم قانون البنوك. وهذا القانون يجيز التصالح مع المستثمر بل ومع رؤساء وموظفي البنوك في أشد الجرائم اعتداء علي المال العام وهي تلك المنصوص عليها في المادة116 مكررا من قانون العقوبات. بل أنه فتح باب التصالح بعد الحكم البات الذي تصدره محكمة النقض, بشرط استرداد البنك كامل حقوقه المالية. سادسا: إننا حاش لله أن ندعو إلي التضحية باعتبارات الردع العام في المجتمع إعلاء لمبدأ المنفعة الاجتماعية, وإنما علينا أن ننقب عن الآليات التي تحقق المزج بين متطلبات النفعية وموجبات الشرعية. وهنا أدعو المشرع المصري إلي ضرورة الاستفادة من تجارب القوانين والتشريعات المقارنة في هذا الصدد. إذ لا يقتصر التصالح في القوانين الأوروبية الحديثة علي مجرد رد الأراضي والعقارات أو المنقولات محل الجريمة, وإنما يقترن ذلك بحركة من الجزاءات الاقتصادية المدنية التي قد يخضع المستثمرون لإحداها. من ذلك علي سبيل المثال, ما ورد بالقانون الفرنسي من حظر مباشرة النشاط الاقتصادي الذي وقعت الجريمة بسببه, وحظر التعامل مع بنوك دول الاتحاد الأوروبي لفترة معينة, وحظر إصدار دفتر شيكات لمدة أخري. ولا أضيف هنا معلومات قانونية إلي علم القارئ المبجل حينما أشير إلي أن القانون الفرنسي ألغي تجريم إصدار شيك بدون رصيد بمقتضي القانون رقم1382 الصادر في30 ديسمبر1991, أي منذ ما يربو علي الأعوام العشرين, شريطة خضوع الساحب لأي من الجزاءات الاقتصادية دون الحبس السابق ذكرها. هذا ما عليه تسير تجارب الأمم والشعوب المتمدينة بشأن التصالح في جرائم الأموال, فتعلي مبدأ المنفعة الاجتماعية دون المساس بقيمة الردع. وفي واقعنا القانوني المصري, نستطيع الاستفادة من تجارب أمم سبقتنا, وتعلمنا منها كيف ننقل التجربة, ونطوعها ونمصرها طبقا لظروفنا وأحوال بلادنا.