نسطيع أن نقول إن القصيدة قد تتفوق على الشاعر، فبإمكانها أن تمسكه من يديه كالأم حين تعبر بطفلها الشارع المزدحم بالشاحنات، وبإمكانها أيضًا أن تحكي له ذكريات طفولته بعد أن يكبر، أو تتنبأ بشيخوخته بينما الشاعر يرتع في الصبا. أقول إن بإمكان القصيدة أن تتنبأ، في حين أن الشاعر عاجز عن التأكد من معرفته، كما أن الشاعر يتأدب أمام المستقبل، لكنه يعيش عصره حتى الثمالة، في الوقت الذي لا تعيش فيه القصيدة عصرها، قدر ما تحيا في المستقبل. والسبب في ذلك أن لغة القصيدة لا تريد أن تقول بقدر ما تريد أن تكون، ولكي تكون القصيدة، فعليها أن تعيش عصرها كأنه فترة حضانة، تتعرض فيه لسوء الفهم حينًا، ولسخرية القراء أحيانًا أخرى. المهم أن القصيدة غالبًا ما تعيش في عزلة، حتى يأتي إليها القارئ بوعي جديد، وقد عرف أن القصيدة لم تكن تلثغ، وإنما العيب كان فيه هو كقارئ، لأنه حصر وعيه في ألفاظ وتراكيب أسلوبية قديمة استحوذت على عقله حتى أنه لم يعد يستطيع الفكاك منها إلا بالجرأة والمغامرة! تسطيع القصيدة -بمنتهى الرقة- أن توقف الشاعر عند حده، وأن تعلمه «الأدب» إن لزم الأمر، لكنها لا تخون الشاعر ولا القارئ أبدًا. يقول أحمد عبد المعطي حجازي: «ماري» التي أنقذتها من رجل الشرطة قبل ليلتين.. رأيتها في الليل تمشي وحدها على البلاج.. تعرض ثديها الأثينيَّ لقاء ليرتين.. وبعد أن جزنا الطريق مسرعين.. واصطفق الباب، وأٌحكِمَ الرتاج.. قصّت عليّ قصة الشاب الذي أنقذها من ليلتين.. ثم بكت.. وابتسمت وكان نور القمر الغارب يملأ الزجاج! فالقصيدة «البتول» التي حرص الشاعر على أن يحيمها من الغرق فيما ما هو سياسي وذرائعي حين أنقذها من رجل الشرطة، استطاعت بدورها أن تنقذ الشاعر من الغرق فيما هو شهواني وابتذالي، وأرادت أن تذكره بالإنسان الذي كانه حين أنقذها، فهي تعرف أن الذي أنقذها منذ ليلتين، عاد إلى أصله الذكوري، ويريد الآن أن يقضي وطره، لكنها بقليل من الكيد الأنثوي، تقول للشاعر: إنك الآن ككل الذكور، ولن تكون شاعرًا إلا بي، فوقت أن تحرص على حمايتي ستراني بتولا، أما عندما تريد أن تستهلكني -ككل الذكور- فإنك لن ترى في مرآة القصيدة إلا وجهك المتسلط. لاحظوا أن القصيدة تقول هذا الكلام وهي تبكي وتبتسم في وقت واحد. نعم، القصيدة تبدو للرائي وكأنها تعاني الهيستيريا، لكنها تقول الحقيقة بمنتهى القسوة ككل المجانين، بينما العقلاء -وقد أعماهمُ حجاب العقل- لا يملكون إلا أن يتهموا القصيدة في شرفها، أو يبتذلوها كي يرضوا غرورهم الجاهل وجهلهم المغرور. لاحظوا أيضًا أن الشاعر لا يملك حيال وعي القصيدة وكلامها الجارح، إلا أن ينصت في خجل، فهي تعرف تاريخه جيدًا، وواثقة من نفسها، لأنها على الرغم من تعرضها لمحاولات الابتذال، تظل بتولا، كالحور العين، أو أفضل قليلا، لأن الذكر هو الذي يختار حوريته، بينما القصيدة هي التي تصنع شاعرها، وهي التي تعلمه الشجاعة، محذرة إياه من الأكل على موائد الأعداء، ففي اللحظة التي «يأكل فيها من طعام العدو، يفقد شجاعته ويصير مُقعدا، وحينما يحاول أن يقيد القصيدة، أو يُحمِّلَ اللفظين معنىً واحدا، يفقد حكمته ويضيع الشعر منه بددا». ومع ذلك، نجد الشاعر -بكل غرور- يظن نفسه خالق القصيدة وكاتبها، بينما في الحقيقة نرى أن القصيدة هي التي كتبت الشاعر، والحقيقة على الدوام قاسية وجارحه، ولذلك نتبجح بعدم وجودها، أو في أفضل الأحوال نتجاهلها. قصيدة حجازي -ككل قصائد الشعراء الكبار- مرت بكل المراحلِ السالفِ ذكرُها، واجهت الوعي القديم بشجاعة، وخلخلت الراسخ من التراكيب الأسلوبية، فتم اتهامها بالعمالة وهدم التراث. قصيدة حجازي نطقت بلسان عصرها، فلم يفهمها القارئ الذي يعيش ضيفًا على العصر، وظن أن القصيدة تتلجلج، فاتهمها بالركاكة. قصيدة حجازي التقطت الإنسانيَّ في صوره المتعددة، فكان من الطبيعي أن تزخر بما هو اجتماعي وسياسي وأخلاقي في آن واحد، لكن البسطاء اتهموا القصيدة بأنها بوق النظم السياسية، البسطاء الذين لا يفرقون بين ما هو أيديولوجي وخطابي؛ تربأ القصيدة بنفسها عن أن تستهلكه ويستهلكها، وما هو سياسي وثقافي؛ تعمل القصيدة على رصده باعتباره جزءًا من الإنسانية.