109 أعوام تمر على واحدة من أشهر المحاكمات الظالمة التى عرفها المصريون . أقصد محاكمة فلاحى قرية دنشواى التى أسهمت فى تشكيل الوجدان القومى للمصريين. ولقد ذاق أجدادنا مع دنشواى يونيو 1906 مساوئ الاحتلال وعجرفته.وأيضا الظلم الناجم عن انحياز القضاء الى السلطة الحاكمة . وبلغ كيد المستعمرين ودهاؤهم أن جعلوا محاكمة هؤلاء الفلاحين أمام قضاة مصريين من مواطنيهم وليس أمام محكمة عسكرية بريطانية أو القضاء المختلط . ولما كانت سياسة اللورد كرومر هى فرق تسد فقد جرى اختيار قاض قبطى لرئاسة المحكمة. ولكن ظلت وصمة عار أحكام الإعدام والسجن والجلد تطارد هذا القاضى (بطرس باشا غالى) حتى اغتاله إبراهيم الوردانى بعد نحو أربع سنوات ووقتما كان رئيسا للوزراء. وحاول ابراهيم الهلباوى ممثل الادعاء ضد الفلاحين فى دنشواى أن يكفر عن ذنبه فتحول الى الدفاع عن الوردانى نفسه لدى محاكمته. واستدعاء ذكرى دنشواى و قاضيها غالى هى خير سياق لإدراك قيمة الحكم التاريخى للمحاكمة التأديبية ببراءة القاضى الوطنى سلامة ميخائيل فى 2يونيو 1921، والذى تحدثت عنه فى مقال سابق عن القاضى الجليل زكريا عبدالعزيز وما يتعرض له ورموز تيار استقلال القضاء. ولقد عدت الى القراءة فى أرشيفات التاريخ فتبين لى أن ميخائيل كان قبل محاكمته قبل المشاركة فى احتفال ومظاهرة سياسيتين ترحيبا بعودة سعد زغلول زعيم الوفد من المنفى وتنديدا بحكومة عدلى يكن من بين أعضاء اللجنة القيادية التى أشرفت على إضراب الموظفين خلال ثورة 1919. وكان القضاة مازالوا بعد فى عداد موظفى الحكومة دون ان يميزهم كادر خاص او استقلال عن جهازها البيروقراطي. ويفيد كتاب المؤرخ عبد الرحمن الرافعى بتاريخ مصر القومى» فى جزئه الثانى عن الثورة ووفق الطبعة الثانية الصادرة من مكتبة النهضة المصرية عام 1955 المشاركة الواسعة للأقباط فى عضوية هذه اللجنة الى جانب قاضينا . بل يتضح أيضا ان سبعة من رجال القضاء كانوا من بين أعضائها (الأسماء كاملة ص 21 و22). وهى اللجنة التى لم تقم بإنهاء الإضراب إلا بعد اسقاط حكومة حسين باشا رشدى، وكانت تختتم بياناتها السياسية بشعار: «يحيا الوطن ويحيا الاستقلال التام». وبالعودة الى عددى صحيفة الأهرام 2 و 3 يونيو 1921 فى تغطية حدث المحكمة التأديبية لأعلى قضاء فى مصر حينها (محكمة استئناف مصر الأهلية) يتضح انتصار منطق حق القضاة والموظفين العموميين فى الحرية السياسية على منطق طاعة الحكومة زعمال على بطالس. لم ينكر قاضينا الوطنى ميخائيل انه تلقى تعليمات وتحذيرات مسبقة من رؤسائه بالامتناع عن المشاركة فى الحفل السياسى .لكنه دافع عن الحرية السياسية المباحة وحقه فى التعبير عن الرأى حين فرق بين الطاعة الواجبة فيما يتحدد بالقانون وبين الرأى والخلاف السياسيين. فقال أمام المحكمة قولة لعلها شهيرة :«اذا أردت أن لاتطاع فمر بما يستطاع». و نص حكم البراءة وأسبابه المنشور فى «الأهرام» يعد وثيقة تاريخية فى الدفاع عن حرية الرأى واستقلال الموظفين لا القضاة وحدهم عن التوجه السياسى للحكومة. وثمة فى الحكم تحديد دقيق للحد الفاصل بين حق القاضى كمواطن فى أبداء الرأى السياسى والتفاعل مع الشئون العامة وبين التزامه الحيدة على منصة القضاء و فى تطبيق القوانين واصدار الأحكام. فضلا عن أخذ الحكم بالمقتضيات الاستثنائية فى أزمنة الثورات . ولأنه بضدها تتميز الأشياء فإن المصادفة قد ساقت على الصفحة ذاتها بجريدة الأهرام حكما بغرامة خصم شهر واحد عن ذات التهم وفى نفس المناسبة السياسية ضد الموظف وليم مكرم عبيد المدرس بمدرسة الحقانية السلطانية. وبصرف النظر عن تفاهة العقوبة فان الفارق مع حكم البراءة يعود حتما الى ان الجهة التى اصدرته ليست سوى مجلس تأديب فى مصلحة حكومية يرأسه موظف أجنبى المسيو جول ألفريد وليس محكمة معتبرة من كبار قامات القضاة المصريين. وعلى أى حال فإن وقائع كالحكم التاريخى للجمعية العمومية لمحكمة استئناف مصر الأهلية هذا تضىء لنا أحد مكاسب ثورة 1919 حين شدد دستور 1923 فى المادة 124 على استقلال القضاة والقضاء وعن الحكومة على وجه التحديد فجاء نصها: «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون وليس لأى سلطة فى الحكومة التداخل فى القضايا». ولاشك ان تقدم الدول يقاس بمدى استقلالية مؤسسات كالقضاء ورجال كالقضاة عن سلطة الحكم. وعندما يصبح القضاء أو حتى الصحافة أسيرة السلطة السياسية ورهن توجهاتها فقل السلام على الدنيا والعدل.. والحرية أيضا. وبالطبع حقوق المواطنين . لأن فى مثل هذا الانحياز اخلال بالتوازن بين السلطة والمجتمع . ولذا يأسف المرء للإخفاق فى اصدار قانون جديد للسلطة القضائية بعد ثورة 25 يناير يستكمل استقلالها . وبما ينهى ظواهر كاستوزار القضاة و شغلهم لمناصب عليا فى الدولة كالمحافظين أو عملهم مستشارين بأموال طائلة لدى المؤسسات والشركات، ويقطع الطريق على تكرار سوابق بطرس غالى دنشواى أو أنور أبوسحلى الذى ظل يصادر جريدة الأهالى المعارضة للرئيس السادات ثم عينه لاحقا وزيرا للعدل. وأيضا يأسف المرء عندما يتأمل مالحق ويلحق بقضاة أجلاء انحازوا لشعبهم ولقيمة العدل فجاهدوا على رأس حركة استقلال القضاء فى عهد الاستبداد والفساد المديد زمن مبارك. لمزيد من مقالات كارم يحيى