لا أعرف هل تورطت صحف الاحتلال البريطانى كالمقطم فى غضون ثورة 1919 واعقابها فى شن حملة تشويه وتشهير وتحريض ضد القاضى سلامة بك ميخائيل على نحو ماتفعله الآن بعض صحف وفضائيات رجال أعمال مبارك ضد القاضى زكريا عبد العزيز رئيس نادى قضاة مصر (2001 2009). وهو الذى تجاوزت شهرته وسيرته مصر الى أنحاء العالم على رأس تيار استقلال القضاة ومعاركه النبيلة دفاعا عن كرامة زملائه وسمعة القضاة وضد تلويثهم بتزوير الانتخابات العامة، ثم رمزا من رموز ثورة 25 يناير . لكن ما أصبحت أعلمه أن تاريخ هذا الوطن يحفظ لنا حكما قضائيا ببراءة ميخائيل الذى أحيل للتأديب وأوقف عن العمل متهما بالمشاركة فى حفل سياسى لتكريم سعد زغلول زعيم الثورة والوفد العائد من المنفى والخطابة مهاجما حكومة عدلى يكن وقيادة مظاهرة وصفها الادعاء بانها هائجة تضمنت إهانات جارحة للحكومة. وحكم البراءة التاريخى هذا سطرته بحروف من نور الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف العليا فى 2 يوليو 1921 .وهى أعلى محكمة فى مصر حينها . وقد انتهت الى مبدأ استقر فى محاكم العالم وهو أن» حرية الرأى حق طبيعى للقاضى كغيرة من المتمتعين بحقوقهم المدنية ...« .كما أخذت بمقتضيات الحال فى زمن الثورات حين قالت:« إن إبداء الرأى المنسوب الى القاضى فى الظروف السياسية الحاضرة وهى ظروف استثنائية محضة لا يتعارض مع وظيفته ». (نص الحكم فى كتاب القاضى والاستاذ الجامعى الدكتور عبد الفتاح مراد بعنوان المسئولية التأديبية للقضاة وأعضاء النيابة،وهى بالأصل رسالة دكتوراه من جامعة الاسكندرية) والمدهش الآن ان تتجدد حملة استهداف المستشار زكريا وتجرى احالته للصلاحية متهما بالاشتغال بالسياسة بعد عام واحد من التحقيق معه فى ذات التهم والانتهاء الى تبرئته . وأظن ان الرجل أصبح بامكانه أن يدخل موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية مسجلا سابقة إحالة قاض للصلاحية مرتين فى غضون عام واحد. ومثار الدهشة لايتعلق وحسب بأن من بين المحرضين عليه قضاة ذهبوا أبعد منه تدخلا فى الشئون العامة والسياسية .ولا أن تفسير قانون السلطة القضائية واضح فى ان الاشتغال بالسياسة يعنى ممارسة نشاط حزبى او خوض الانتخابات العامة. و زكريا عبد العزيز أبعد عن هذا حتى ولو بالتفكير والرغبة.. بل رفض عروضا تكررت بعد الثورة بمناصب النائب العام ووزير العدل ومحافظ القاهرة . وتشهد صفحات «الأهرام» فى عدد 30 يوليو 2013 على قولته:«منصب قاض من الدرجة الثانية أفضل عندى من منصب وزير». لكن الأكثر اثارة للدهشة هذه المرة هى اتهام قاضينا بما اسمى باقتحام أمن الدولة وفق بلاغ لجنة من داخل نادى القضاة تحمل اسم (الدفاع عن القضاة). وهذا والله اسمها وهكذا جاء نص اتهامها دون تحديد تاريخ أو مكان. وهو أمر على اى حال اشبه بغرابة تلفيق قضية تنظيم لقلب نظام الحكم من شخص واحد. ولقد عكفت على قراءة كل ما نشرته صحف «الأهرام» و«الأخبار» و«المصرى اليوم» و«الشروق» عن هذه الوقائع اعتبارا من 5 مارس 2011 لانتهى الى ان المتهم الوحيد إذا افترضنا ان فى مثل هذا الحدث تهمة فى زمن الثورات هو الشعب المصرى وجموعه.هذا فضلا عن أنه لا توجد قضية باسم اقتحام أمن الدولة أصلا. ويتضح من القراءة المتفحصة للصحف اليومية الأهم فى هذه الفترة وقد تضمنت تغطيات تفصيلية لما جرى فى مقر مدينة نصر أن أيا منها لم يأت على ذكر المستشار زكريا. وإذا كانت فرنسا تحتفل بيوم سقوط سجن الباستيل 14يوليو 1789 عيدا وطنيا لها فإن العناوين الرئيسية لصحفنا هذه لا تخلو من أوصاف لجهاز أمن الدولة تحيل الى الباستيل .بل ذهبت مانشتات الصحيفتين القوميتين الى وصف الجهاز وقبل اعلان قرار حله فى 15 مارس 2011 ب «المرعب» (الأهرام 6مارس) و«الجستابو المصرى» ( الأخبار 9مارس ). ولن أكرر ما قيل بأن استهداف قضاة تيار الاستقلال يعد من بين مظاهر عدة تفيد الانتقام من ثورة 25 يناير ورموزها. بل أقول أيضا إن مايجرى ينطوى على استهزاء وخرق لدستور اعترف فى مقدمته بانها من الثورات الكبرى فى تاريخ الانسانية. بل وأسس مشروعيته على حركة جماهيرها وافعالهم الثورية. وعندما حوكم وبرئ القاضى الوطنى «سلامة ميخائيل» زمن الاحتلال والسلطان فؤاد الأول لم تكن الأحكام القضائية تصدر باسم «الشعب» كما هو عليه الحال بعد ثورة يوليو 1952. وكل جرائم قاضينا عبد العزيز تتلخص فى الانحياز لهذا الشعب وثورته و حقه فى عدالة تستند الى قضاء مستقل وقضاة أحرار لا يرهبهم سيف سلطان ولا يغريهم ذهبه وفى انه أسهم ورفاقه فى تغيير صورة سلبية مسيئة للقضاة بانهم فئة متخمة بالامتيازات موالية للسلطة. لم يغتصب أراضى الدولة. ولو كان سلامة بك ميخائيل على قيد الحياة لحضر الى جلسة محاكمة القاضى زكريا عبد العزيز بدار القضاء العالى صباح السبت المقبل. ولاصطحب معه القضاة العظام لمحكمة الاستئناف العليا 1921 . حتما كانوا سيختارون هذا الصف. لمزيد من مقالات كارم يحيى