حالة التجريف والتمزق والتردي التي يتعرض لها تراثنا الغنائي الأصيل نتيجة عوامل كثيرة من بينها الهجمة الشرسة المقبلة من الخارج فيما يسمي بالعولمة وما تتضمنه من اتجاهات موسيقية وغنائية هابطة ومتدنية لا تتوافق مع تقاليدنا وهويتنا العربية. هي إحدي القضايا المهمة التي يناقشها مهرجان ومؤتمر الموسيقي العربية المنعقد الآن في أبو ظبي وتمتد جلساته حتي الثامن من ابريل المقبل بمشاركة نخبة من العلماء والخبراء وأساتذة الموسيقي في الوطن العربي ويبحثون في اجتماعاتهم كيفية الخروج من هذا المنعطف والنفق المظلم الذي تتفاقم فيه هذه المشكلة يوما بعد يوم وتتهاوي معه هويتنا الموسيقية الغنائية خاصة أن قطاعات كثيرة من شبابنا البريء انزلقوا في هذه الموسيقيات الصاخبة والزاعقة ويمارسونها باستمرار خلال حفلاتهم في الفنادق والملاهي دون أن يبصرهم أحدنا بأنهم يضربون هويتهم الموسيقية العربية في مقتل ويدمرون البقية الباقية من تراثنا الموسيقي العربي بأيديهم الذي حافظ عليه الأجداد وتفتح المعاهد الموسيقية العربية أبوابها لنشره وازدهاره. وقد تلقيت بهذه المناسبة نسخة من البحث القيم الذي يشارك به الملحن والباحث الموسيقي محمد قابيل ويلقي فيه الضوء علي المحطات المهمة التي أسسها جيل الرواد في بناء الصرح الموسيقي العربي ونعرض لبعضها في هذا المقال مع بعض مقترحاتنا لدعم رسالة مهرجان أبوظبي للموسيقي العربية وكيفية الاستفادة من معطياته ومن الأبحاث والدراسات القيمة التي يشارك بها هؤلاء العلماء والخبراء في فعالياته وذلك علي النحو التالي: في البداية أقول إن موسيقانا العربية شهدت أزهي فترات ازدهارها في الأندلس ويطلق عليها الباحث العصر الذهبي لدولة الموسيقي التي أسسها الحسن علي بن نافع الشهير بزرياب الطائر الأسود جميل الصوت- حيث كانت الأندلس الجامعة التي تنشر الفن والموسيقي والغناء الراقي بقوالبه المستحدثة التي تفتح شهية المواطن لسماعها وعشق هذا التراث من الطرب الأصيل. سيد درويش: أطلق عليه النقاد لقب أبو الموسيقي العربية ومؤسس صرحها الأول, تجلت عبقريته خلال فترة الاستعمار فكانت أغانيه طلقات رصاص ضد المستعمر ترددها الجماهير وتلهب حماسهم من أجل طرده وتحقيق الاستقلال. أم كلثوم: المحطة الرابعة والمهمة في مسيرة الغناء العربي ويري قابيل انها جاءت لتلغي كل ما قبلها من غناء هابط كانت تتولاه الجواري والقيان في العصر الجاهلي في حضور الحكام وكان غناءا للتسلية يخلو من أي قيمة غنائية في الكلمة أو اللحن ولا يمكن أن نطلق عليه لقب أغنية بمواصفاتها المطلوبة وارتقت أم كلثوم بالأغنية وارتفعت بها إلي مستوي الفن الكلاسيكي الرفيع الذي يقارن بالموسيقي الكلاسيكية في أوروبا واستطاعت من خلال القصائد الرصينة التي صاغها الشعراء العرب أن تجعل لغتنا الجميلة تجري علي ألسنة البسطاء والعامة من أبناء الشعب العربي, وبلغت الأغنية العربية قمتها في عهدها وهو ما أكده الاستفتاء الذي أجرته صحيفة لوموند الفرنسية بين قرائها وأظهر أن قصيدة الأطلال التي تغنت بها لإبراهيم ناجي ولحن السنباطي واحدة من بين عشرين عملا فنيا رائعا تم إنتاجه خلال القرن العشرين علي مستوي العالم. محمد عبد الوهاب: قام بتطوير موسيقانا العربية بطريقة حديثة وضعتها في مكانة تليق بها فجذبت لسماعها ملايين العشاق العرب الذين أحبوا عبد الوهاب وأطلقوا عليه لقب موسيقار الأجيال طبقا لكلام النقاد وكانت أغانيه لأم كلثوم قمة في الإبداع اللحني خاصة رائعته إنت عمري التي قلبت الموازين وحققت انتشارا غير مسبوق في تاريخ الغناء العربي. ويعود الباحث مرة أخري للسنباطي ويتحيز له في هذا البحث ونحن معه عندما أطلق عليه رائد قصيدة الفصحي في التلحين وقوله إذا كان النقاد قد أطلقوا علي سيد درويش لقب أبو الموسيقي العربية فإن السنباطي يستحق أن نطلق عليه لقب سيد البنائين للقصيدة الغنائية مستشهدا ببعض قصائده ومنها الأطلال وكذلك مصر تتحدث عن نفسها لحافظ إبراهيم وفي مجال أغنيته العامية تسطع أمامنا طوف وشوف لعبدالفتاح مصطفي ومن أغاني الحج دعاني لبيته لحد باب بيته. وإذا كان مهرجان الموسيقي العربية في أبوظبي قد شارك فيه نخبة من علماء الموسيقي بأبحاثهم القيمة فنتمني أن تتولي وزارة الثقافة هناك طبعها في كتاب يضاف إلي مكتبتها الثقافية, ونحن مع قابيل بأن مهرجان الموسيقي العربية الذي يقام في مصر منذ عشرين عاما برئاسة د. رتيبة الحفني لديه عشرات الأبحاث والدراسات الموسيقية المهمة التي أبدعها الباحثون العرب ونتمني أن تتولي د. إيناس عبد الدايم جمعها في كتاب أو في مجلد واحد ليكون باكورة إنتاجها وهي تتولي مسئولية الأوبرا وتصبح في متناول كل الدارسين والباحثين في موسيقانا العربية في الوطن العربي. المزيد من مقالات مصطفى الضمرانى