يدور هذه الأيام فى مصر نقاش ساخن حول مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء شعبنا؛ كشف للأسف عن عقليات وقفت عند حدود منتصف القرن الماضى. والغريب أن بعض من يدافعون عن الطبقية والتمييز هم ممن استفادوا من ثورة 23 يوليو ووصلوا بعدها الى أعلى الدرجات فى المجتمع المصرى! أولا: نشأة عبد الناصر ودورها فى إرساء مبدأ تكافؤ الفرص: لقد دفعنى هذا الجدل الى تذكر والدى رحمه الله واستعرض حياته التى كان يحدثنا عنها.. جاء عبد الناصر من الشعب وعانى من الظلم والفقر الذى تعرض له أغلبية المصريين، وكافح فى حياته منذ أن كان طالبا متفوقا، ورغب فى أن ينضم الى الجيش ولكن واجهته عقبة واحدة؛ أنه ابن موظف بسيط فى هيئة البريد؛ ولذلك رُفض فى كشف الهيئة لأنه بدون واسطة، فالتحق بكلية الحقوق. وممكن تصور مدى ما عاناه هذا الشاب الوطنى الذى كان فى مقتبل العمر، والذى تزعم طلبة مدرسة النهضة الثانوية أثناء انتفاضة 1935، وخرج فى مظاهرات تطالب بالدستور والجلاء، وجرح أثناءها فى جبينه. إلا أنه بعد عقد معاهدة 1936، فتحت حكومة الوفد المجال أمام أبناء الشعب، فتقدم عبد الناصر مرة أخرى يريد الالتحاق بالكلية الحربية ولكنه طلب أولا فى هذه المرة مقابلة اللواء إبراهيم خيرى، وأقنعه برغبته العارمة هذه، فتم له ما أراد. تخرج عبد الناصر ملازم ثان فى عام 1937، وعين فى منقباد بالصعيد. وبدأ حياة عملية فى الجيش تشعرنى بالفخر بعد أن اطلعت على ملفه العسكرى السرى. لقد تنقل الى السودان، ثم خدم فى العلمين أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم حصل على شهادة كلية أركان الحرب، واشترك فى حرب فلسطين، فغادر فى أول يوم أعلنت فيه مصر دخولها - أى فى 15 مايو 1948- وجُرح فيها مرتين، ومنح أثناءها نجمة فؤاد الأول العسكرية. وبعد رجوعه، تعصف به المرارة وخيبة الأمل، أصبح مدرسا فى مدرسة أركان الحرب، وأعاد فى نفس الوقت تكوين تنظيم »الضباط الأحرار«، على أساس أن المعركة الحقيقية هى ضد النظام الملكى الفاسد. ومن خطاباته الى أهله وأصدقائه وزملائه، عرفت كيف كان متمسكا بالقيم والمبادئ العالية، واحترام النفس والتضحية فى سبيل الوطن. لكن ما راعنى هو مدى الفقر الذى كانت تعانى منه أسرته، وقد كان الداعم لإخوته الأصغر منه، لدرجة أنه أرسل لوالده يستشيره فى عرض تقدم به أحد زملائه لأن يبدل معه مكانه فى العريش، والفارق 170 قرشا فى المرتب الشهرى! وانتابنى الفضول هل فعلا تم نقله؟ ولم أتلق جوابا إلا من سجله العسكرى، فعرفت أنه لم يذهب. وأكثر من ذلك أدركت كيف أنه سعى لحصول أخيه الليثى على مجانية التعليم وكان متفوقا، ولكن الأمر كان يحتاج أيضا الى واسطة! وقد تعددت الجوابات بينه وبين أسرته ومعارفه بهذا الشأن؛ بحيث أننى شعرت أنها كانت مسألة حيوية بالنسبة لهم لتقلل من مصاريف الحياة. إن نشأة عبد الناصر البسيطة، جعلته يشعر بمشاكل الشعب ومتطلباته؛ ولذلك فبعد أن قاد الثورة فى 23 يوليو 1952، حاول - وصحبه - أن يعيدوا لهذا الشعب كرامته وحقوقه، فكان قانون تحديد الملكية فى 9 سبتمبر بعد ستة أسابيع من قيام الثورة - خطوة كبيرة فى القضاء على الاقطاع الذى ذل الفلاح. وقد توالت منجزات ثورة 23 يوليو المادية والمعنوية؛ فأتاحت فرص العمل للشباب فى المصانع والحقول، وقننت مجانية التعليم لتفتح الباب لتكافؤ الفرص والحراك الاجتماعى. وتم النص فى دستور 1956 الذى طُرحللاستفتاء بعد إنتهاء فترة الانتقال فى يونيو، فى المادة السادسة: »تكفل الدولة الحرية والأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المصريين«، ومادة 31: »المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة«. إنها كانت الخطوة الأولى، فالنصوص المكتوبة لا تكفى وإنما يجب استيعابها فى المجتمع بمضى الزمن. لقد شهدت مصر الطبقية منذ أيام الفراعنة؛ فكل معبد فرعونى به ثلاث صالات،يفصل بينها حوائط؛ فى المقدمة مكان للكهنة، وبعدهم الفرعون وأهله، وفى آخر المعبد عامة الشعب! ثم جاء المماليك ومن بعدهم محمد على الألبانى الجنسية وعائلته، ثم الاحتلال البريطانى، فحفرت فى تاريخ مصر نوازع الطبقية المهينة لدى الاقطاعيين وباقى الأغنياء، وأصبحت جماهير الشعب من الفلاحين والعمال وحتى أفراد الطبقة المتوسطة، غرباء فى بلدهم. لقد ظل جمال عبد الناصر على ولائه للشعب طوال أكثر من ثمانية عشر عاما، يعمل على رفع مستواه وعلى القضاء على الطبقية البغيضة التى عانى منها هو وأبناء جيله، ولم ييأس فظل يتحدث علانية وفى الاجتماعات عن تكافؤ الفرص، فقال فى جلسة مجلس الرئاسة بتاريخ 24 مارس 1963، عن دلالة هذا المبدأ: »أى أن يأخذ كل واحد فرصة ليس لأنه ابن فلان؛ ولكن بسبب جهده وعمله«. وفى بداية ثورة 23 يوليو قال عبد الناصر: »إن الهدف الذى قامت من أجله الثورة هو تكافؤ الفرص لجميع المواطنين؛ بحيث يتساوى فى ظلها جميع الأفراد فى الحقوق والواجبات، بعد أن انعدمت فى الماضى القيمة الإنسانية للفرد«. وفى بورسعيد فى مناسبة عيد النصر، فى 23 ديسمبر 1961، بعد أن أصدر القوانين الاشتراكية قال: »المجتمع الذى سنبنيه اليوم ليس هو الذى سنورثه من الدولة العثمانية، أو هو المجتمع الذى ورثناه من الاحتلال البريطانى؛ إنه مجتمع نبنيه من أجل 27 مليون مصرى، ليس من أجل 5% أو 3%؛ إنه مجتمع الكفاية والعدل... لم يكن ممكنا ونحن نعمل مجتمعا من أجل الحرية الحقيقية والمساواة وتكافؤ الفرص أن نترك ما ورثناه.. إن يكون الغنى إرثا، والذل إرثا، والصحة إرثا، والمرض إرثا«. وقد رعى عبد الناصر مبدأ تكافؤ الفرص أثناء حياته وطبقه على نفسه، ففى حديث له مع مايكل إيتوود، رئيس تحرير مجلة لوك قال: »إن الطلبة يدخلون المدارس بحسب مؤهلاتهم لا بحسب مراكزهم الاجتماعية، وعلى سبيل المثال فإن إبنتى لم تقبل فى الجامعة لأن مجموعها نقص نمرتين، ولكن سائق سيارتى إبنه دخل الجامعة«! بل لقد دخل عبد الناصر معارك متعددة من أجل مبادئه هذه، مع الاستعمار ومع الرأسمالية المستغلة والاقطاع؛ فثورته كانت بيضاء ولذلك ظل أعداء الثورة أحياء ينفثون كرها وحقدا على النظام الجديد، الذى أطاح بسطوتهم ومركزهم كأسياد للبلد. ثانيا: قرية بهوت مثل صارخ على التمييز وتجبر الإقطاع: إن الجيل الجديد لا يعرف كيف كان يعيش الفلاح المصرى فى عهد الإقطاع. ومن الأمثلة المعروفة ما حدث فى قرية بهوت التابعة لمحافظة الدقهلية فى عام 1951. ما قصة هذه القرية، التى أختيرت لتكون الأولى التى وزع فيها جمال عبد الناصر الأرض على الفلاحين فى 9 سبتمبر 1952؟ إنها القرية التى انتفض فيها الفلاحون فى ثورة ضد ظلم الاقطاع، وضد الكرباج والرمى بالرصاص. واستخدمت سلطات وزارة الداخلية بأوامروزيرها فؤاد سراج الدين فى محاصرة القرية بالهجانة والعسكر مدة 45 يوما، وقُتل اثنين من أبنائها على يد أبناء قريبه مالك الأرض البدراوى عاشور! ولا أنسى أنه فى فترات سابقة عندما كان والدى يُهاجَم وتُشوه انجازاته لدرجة أن أحد الكتاب المعروفين إدعى فى عهد الرئيس السادات أن الزلازل فى اليابان سببها السد العالى! كنت أفكر.. هل ذهبت حياة والدى ومعاركه سدى؟! وأتحسر كيف أنه وهب حياته للوطن؛ ولذلك فارقنا وهو فقط فى الثانية والخمسين! وفجأة قفز الى ذهنى خاطر.. المقارنة بين حال الفلاح الذى يمثل أغلبية الشعب بعد رحيله، والفلاح قبل ثورة 23 يوليو 1952. ووجدتنى أشعر بالراحة وأقول: يكفيه أن الفلاح من بعده لا يستطيع أحد أن يمس شعرة من رأسه! ثالثا: ثورة 23 يوليو تعيد الحق لأصحابه: وبعد قيام ثورة 23 يوليو فى العام التالى لأحداث بهوت الدامية، اعترف عبد الناصر فى خطاب له بتاريخ 5 نوفمبر 1953: »أن ثورة الفلاحين فى بهوت عام 1951 التى اندلعت ضد ظلم وجبروت الاقطاعيين، كانت الباعث للثورة؛ لإصدار قوانين الاصلاح الزراعى«. رابعا: المواطن المصرى وما آل اليه مبدأ تقرير المصير: إن إحساس المواطن المصرى البسيط بالكرامة والعزة والمساواة ناتج أيضا عن مساهمته فى الدفاع عن وطنه فى 1956، وفى 1967، وفى حرب الاستنزاف 1967 70، وفى حرب 1973. فشعور المواطن المصرى بالانتماء للوطن وحقه فى ثرواته وفى فرص العمل به لم يأت من فراغ، وأبسط وأقرب مثل على ذلك أهالى شهدائنا الحاليين وهم بالمئات من هم؟ إنهم فى أغلبهم من القرية ويرتدون جلبابها. إن مصر لم تعد بلد الأسياد والأمراء والملوك، فكل هذا التاريخ قد تغير منذ فجر ثورة 23 يوليو 1952 بالقوانين واللوائح، ولكن ظلت العقليات القديمة متيبسة متمسكة بمظاهر اختفت فى العالم كله. إننى أتذكر عندما سافر والدى الى نيويورك لحضور دورة الأممالمتحدة فى سبتمبر 1960،ومعه مرافقه الشخصى محمد داوود وكان نوبيا الذى عندما رجع الى مصر حكى لنا وسط ذهولنا - أنهم وضعوا على صدره إشارة أنه مصرى؛ وذلك لأن هناك أماكن معلقا عليها يافطة »ممنوع دخول الزنوج والكلاب«! ونرى الآن رئيس الجمهورية أوباما- ملونا أو «إفريقيا أمريكيا» كما أصبحوا يسمونهم! لقد تغيرت مظاهر التفرقة العنصرية فى الولاياتالمتحدة وفى جنوب إفريقيا، ولكن فى الدساتير والقوانين فقط، وظلت هذه التفرقة تمارس بشكل أقل ولكن فى الخفاء. ولا يجب أن ننسى فى العصر الحديث منظمات حقوق الإنسان، التى تعمل جاهدة على الحفاظ على الكرامة الانسانية وضمان الحقوق الدستورية على أرض الواقع، كما تحارب فى كل الجبهات وفى كل البلاد. ووسط هذا الانجاز الانسانى العالمى ظهرت نغمة نشاز فى مصر التى ثارت أخيرا من أجل العدالة الاجتماعية، وذلك من شخصية عامة.. وزير مسئول يحكم قوله وفعله دستورنا، الذى تنص مادته الرابعة على.. »السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين«، ومادة 9: »تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز«. فيتفاخر بالتفرقة بين أبناء الوطن الواحد بسبب النشأة، بغض النظر عن مستوى التعليم ودرجة التفوق، والغريب أنه وزير العدل، الذى يناط به ضمان تنفيذ الدستور والقوانين! ما هذا؟ هل نسينا منشأ طه حسين والعقاد وغيرهما من كبار الكتاب والشخصيات التى أسهمت فى نهضة الأدب والعلم فى مصر؟! لقد كانوا إما من الريف أو من أسر رقيقة الحال. وقد كنت أقرأ فى كتاب عن الفن التشكيلى المصرى، فوجدت أن معظم المبدعين فى هذا المجال أيضا من خلفية اجتماعية متواضعة. وأعترف أن ما أسعدنى هو رد الفعل الواسع يستنكر هذا التصريح، لقد أحسست أن مجتمعنا بخير، وأن الطبقية البغيضة التى تأصلت فيه فى الماضى قد انتهى عهدها، وأصبح يتمسك بها قلة منبوذة من الجميع. وتذكرت وكلى أسى كيف أن أحد أبناء مصر المتفوقين عبد الحميد شتا قد انتحر فى النيل فى 2003؛ لأنه تقدم لوظيفة فى السلك التجارى، ولكنه رُفض بعد أن اجتاز جميع الامتحانات بجدارة؛ لأنه«غير لائق اجتماعيا«؛ فوالده فلاح! هل هناك يأس أكثر من ذلك؟! بلد من هذه؟! إننا يجب أن نفتح الآفاق للشباب والأمل فى المستقبل، ونشدد على مبدأ تكافؤ الفرص، فهو وإن طبقه جمال عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات إلا أن كل شاب فى كل الميادين يجب أن يتمسك به ويحارب من أجل فرضه، ولا يسكت على التمييز والتفرقة بسبب المال أو الوسط الاجتماعى أو العرق أو الدين. وهكذا.. فى كل مجال فى بلدنا؛ أساتذة الجامعة، المحامون، الأطباء، المهندسون، نجد أولاد عامة الشعب المصرى يضربون الأمثال فى العلم والتفوق، ليس فى بلدهم فقط وإنما فى العالم. وما يطمئننى فى الحقيقة أننى فى تحليل لمضمون أحاديث الرئيس السيسى، شعرت بعزمه على إتاحة الفرصة لكل المواطنين على حد سواء، ولا عجب فهو إبن الجمالية التى عاش فيها جمال عبد الناصر سنوات عدة من عمره، وشعر بحرمان أبنائها ومشقتهم فى الحصول على لقمة العيش الشريفة. إن العبرة ليست بالدساتير والقوانين، ولكن بإدراك القيادة الرشيدة لأمراض المجتمع ومشاكله والعمل على حلها بما يتوافق مع المصلحة الوطنية، وكذلك أن يقوم كل مواطن فى موقعه بالدفاع عن تلك المبادئ الثمينة فهى ثمرة كفاح سنين طوال. لمزيد من مقالات د. هدى عبد الناصر