كنت قد اشرت فى مقال سابق بمناسبة عيد العمال الى فشل السياسة الاقتصادية الحرة غير المنضبطة (أو ما يعرف بآليات السوق الحرة المطلقة) فى تحقيق التوازن الاقتصادى و التشغيل الكامل. وأكدت الاحداث فى مصر خلال الأعوام الأربعة السابقة أن هذا التوازن لا يتحقق تلقائياً، بل إن النظم الرأسمالية يمكن أن تعانى وهى الحالة الغالبة لمدة طويلة من مستوى أقل من مستوى التشغيل الكامل (مثلما حدث خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 -2010). وكان من المنطقى بل ومن الضرورى أن ينعكس مبدأ تدخل الدولة فى الاقتصاد , حيث استلزم الأمر خروج السياسة المالية المصرية عن حيادها التقليدى والذى استمر سنوات طويلة واستلزم أيضاً تحملها هى والسياسة النقدية مسئولية الوصول الى التوازن الاقتصادى وتحقيق التشغيل الكامل. و تمثل هذا فى سياستنا المالية بصفة أساسية بعد يونيو 2013 فيما يلي: أولاً؛ تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى؛ حيث إن هناك بعض الموارد المنتجة يمكن أن تظل دون مشاركة فى زيادة الناتج القومى، وذلك لأن القطاع الخاص وحده لا يقدر على تشغيل كل هذه الموارد (مثل مشروع قناة السويس الجديدة أو محور التنمية والمشروعات الكبرى). ومن ناحية أخرى يكون التدخل ضرورى لتفادى التضخم وارتفاع الأثمان، وعليه كان من الطبيعى أن ينعكس هذا الفكر فى السياسة الاقتصادية بحيث تتدخل الدولة لتشغيل الموارد التى عجزت المشروعات الخاصة عن تفعيلها، طالما أن الانفاق الكلى (الخاص والعام) غير كافيين لتشغيل جميع الموارد المنتجة, والتسليم إذن بأن الزيادة فى النفقات العامة عن الايرادات العامة تؤدى إلى زيادة الناتج القومى المحلى. وثانيا؛ حلول التوازن الاقتصادى الكلى محل التوازن المالى كهدف للسياسة المالية؛ ونزولاً على ما تقدم كان من الضرورة العملية ان تتدخل الدولة فى الاقتصاد، بحيث خلصت الادارة المصرية فى العاميين الماضيين إلى تفضيل أولوية الوصول إلى التوازن الاقتصادى على التوازن المالي. ومع التسليم بأن التوازن الاقتصادى لا يحدث تلقائيا، كان من المنطقى أن تتخذ السياسة المالية منه هدفا بدلا من التوازن المالى العقيم، لأن الأول حل جذرى وكلى اما الثانى فهو حل جزئى ومؤقت. ويعنى هذا الفكر الاقتصادى إذن ضرورة التضحية بالتوازن المالى ولو لفترة لتحقيق التوازن الاقتصادى الكلى والذى سوف يحقق على المدى المتوسط التوازن المالى الدائم. أما الآن فيجب الالتجاء إلى عجز الميزانية ، وهو ما يعرف ب «التضخم المالى المؤقت»، اى بعبارة اخرى تغطية النفقات العامة بالاقتراض الداخلى أو الخارجى والإصدار النقدى الجديد, ولكن فى أضيق الحدود. ثالثا؛ الاعتماد و التعامل مع الأدوات المالية والنقدية باعتبارها أدوات اقتصادية خلاقة، وعدم التعامل مع الميزانية ولا الضرائب ولا النفقات العامة ولا حتى ادوات السياسة النقدية على مجرد انهم أدوات مالية ونقدية محضة تستخدم فى الحصول على الايرادات بغرض تغطية النفقات أو الحفاظ على أسعار الفائدة ولتوجيه الادخار والاستثمار ومحاربة ارتفاع الأسعار وتحديد سعر العملة امام النقد الاجنبى، بل لتصبح بالإضافة إلى كل ذلك مسئولة عن إقامة التوازن الاقتصادى الكلى والتوازن الاجتماعى فى البلاد. فمنذ قيام الثورة وتولى الرئيس السيسي, قد تبدل دور السياسات الاقتصادية الى حد كبير, بحيث أصبحت بصفة أساسية أدوات وسياسات تعمل على تحقيق توازن التشغيل الكامل فى الاقتصاد، وأدوات لرفع مستوى الطبقات ذات الدخول المحدودة ولإعادة تكوين البنيان الطبقى المشوه وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية. ويجدر أن نشير فى النهاية إلى ان الاثار الايجابية المتوقعة والمطلوبة من السياسات المالية والنقدية الجديدة, فى حجم التشغيل (أى خفض البطالة) وفى قيمة النقود (أى محاربة التضخم)، وفى مستوى النمو وإعادة توزيع الدخل القومى المصرى فى صالح الطبقات المتوسطة وذات الدخول المحدودة والفقراء لكى يعم السلام الاجتماعى تتطلب قدرا من الوقت, وهو ما يفسر لماذا طالب السيد الرئيس من الشعب الانتظار عامين حتى نجنى ثمار الاصلاح الهيكلى لمنظومة الاقتصاد الكلى. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب