قرأت كثيرا، وسمعت أكثر، عن العشاق الكبار، وقصصهم ونوادرهم وأشعارهم وتعبيراتهم، وكنت أحسب أنى سأظل أرى منهم الفكرة التى يعبرون عنها، فالإنسان كما يقول عن جدارة مولانا (جلال الدين الرومى) الشاعر المتصوف، ليس إلا فكرة، والباقى منه ما هو إلا جلد وعظم، ولكن شاءت محاسن الصدف، والأقدار السعيدة أن أرى رؤى العين الفكرة وتجسيدها فى العظم والجلد والدم..! فأرى العاشق بلحمه وشحمه! وقد غنت سيدة سيدات العرب (أم كلثوم) عن العشاق وقالت: وأنا فى العشق لا أفهم! مع إن فيها تجسد العشق بكل صوره، فعشقت الفن والوطن والناس، وأفاضت على الجميع رسائل العشق فى كل مواطن الجمال فى الحياة، فأيقظت قوى التسامى الداخلى فى النفوس، وبدأ الناس بالاستيعاب التدريجى لمكامن الجمال، فالقلب يعشق كل جميل، فسمعنا منها وعنها روايات العشق والإخلاص للفكرة التى تستمد منها كيانها، وكان مثلها العديد من الفنانين الذين عاشوا للفن، وأنتجوا روائع الأشعار والكلمات، وصدحوا بأجمل الأصوات لتمجيد الحب، بفرحه وشجنه وحزنه وإحباطاته، على أن يكون مقدسا فى كل الأحوال، بينما فى بعض الفنون الجديدة يفزعنى أن أسمع وأشاهد أعمالا تسب وتشتم العشاق عندما يختلفون وتنطفيء جذوة الحب وأخرها أغنية تقول: الباب أقدامك يفوت جمل!، مثل هذه الروح السلبية والعدائية تعلن أن هناك تيارا كبيرا من شبابنا يتكلم عن الحب ولا يعلم عنه شيئا، فالحب المقدس مقدس فى جميع الحالات، حتى عندما تتحول المشاعر، يبقى منها ذكرى إشعال الشرارة المقدسة داخل النفس فى وقت ما، واحترام هذه الحالة، وإن انتهت، احترام للنفس التى أوقدتها، واحترام للذات التى ذاقت حلاوتها، فأعتقد أن هناك قصورا فى إدراك مفهوم الحب، هو وراء ما نسمع من أبشع الجرائم، وكلها نتاج الضمور النفسى والوجدانى لمعنى الحب!،فمن ذاق عرف، فعلى نفسه فليبك من ضاع عمره.. وليس له فيها نصيب ولا سهم! وقد قرأنا كثيرا ما كتبه مشاهير العشاق الذين ذاقوا العذاب فى الحب ولم نُجد منهم سبا ولا قذفا فى معذبيهم، فلا قيس ولا عنترة ولا جميل فعلوا ذلك ولا حتى إمام العاشقين العباس بن الأحنف (أبو الفضل)، الذى وصفه (البحتري) بجلالة قدره، بأنه أغزل الناس، وفى شعره لحبيبته (فوز) ما يثير الضحك، بقدر ما يثير الدهشة والإعجاب، كقوله: أبكى الذين أذاقونى مودتهم.. حتى إذا أيقظونى للهوى رقدوا، واستنهضونى فلما قمت منتصبا.. بثقل ما حملونى منهم قعدوا!!! العاطفة الصادقة والشعور العميق، حولت إمام العاشقين إلى شاعر عظيم مرهف الحس، يعبر عن حاله بلغة رقيقة صافية تفيض بالعذوبة والرقي، رغم ما يلاقيه من صد وهجران، فيقول لها أميرتى.. لاتغفرى ذنبى فإن ذنبى شدة الحب حدثت قلبى دائما عنكموا حتى استحييت من قلبى اليوم مثل العام حتى أرى وجهك والساعة كالشهر ماذا على أهلك أن لا يروا العطر وأنت العطر للعطر أفسد قلبى شادن (غزال) أحور يسحر بالعينين والثغر لو كنت أدرى إنه ساحر علقت تعويذا من السحر هذا الشعور الدافق موهبة الإنسان، الذى حول الغريزة الطبيعية قصيرة العمر، إلى مصدرا هائلا للسعادة، بإضفاء أوصاف خيالية على المحبوب، يستحق من أجلها الفناء من أجله، وغفران ما قد يبدو من مساوئه، هذه الحالة الإنسانية المتفردة بنى عليها فلاسفة المتصوفة طريقهم للوصول للحب الأسمى والمطلق (الحب الإلهي) وقرأنا لهم ما يذيب الحجر تبتلا فى فن المكابدة للوصول للحبيب، الذى ليس مثله شيء، فالتعب والجهد فى طريق الوصول هو ما نملكه للاجتهاد لنيل رضى الحبيب وليفيض علينا من نور وجهه، وضياء سلطانه، فيقول سلطان العاشقين هذه المرة (ابن الفارض): ته دلالا فإنك أهلا لذلك.. وتحكم فالحسن قد أعطاك، لك فى الحى هالك بك حي.. فى سبيل الهوى استلذ الهلاك، يحشر العاشقون تحت لوائي.. وجميع الملاح تحت لواك! ، فالمحبة هى خمر الوجود، فالحب من الله قبلا وإليه أزلا وأبدا، وأينما تولوا وجهوكم فثم وجه الله.. الحب المطلق، وكل فعل للحب هو طريق حب الله الدائم الأزلى. تتأثر النفوس بما تسمع وتقرأ من تجارب وإبداعات العشاق الكثر على اختلاف نحلهم ومللهم ومقاصدهم، ولكنها تتأثر بعمق روحى نورانى بالمعجزة الإلهية عندما تراه مجسدا أمامها عن قرب، وتجد عاشقا للحبيبة والأهل والوطن والناس كافة، ولا يدرك حجم قداسته وسموه، فكل ما يبذله من أجل الآخرين يقدمه طوعا بالطبيعة والفطرة، كأنما خلق ليتنفس حبيبته، ويخدم أهله وذويه، ويدافع بكل كيانه عن وطنه، ولا يرد سائلا أو محتاجا ويتكلم ولا يجرح، ويغضب ولا يؤذي، فقد خاب من حمل ظلما، وحين يُجرح لا يجزع إنما يصبر، لعل النور ينفذ من جرحه إلى باطنه، فيزداد شفافية، وإيمانا بأهل الباطن وأهل المحبة، وعندما تسأله: من أنت؟ فيقول: لا شيء؟! فماذا أكون أنا بجوار عشاق الوطن الذين يجودون بأرواحهم فى سبيل الحب، فيموتون ليعيش الناس، فطريق الحب مازال طويلا للوصول للمحبة.. لوجه الله، الحقيقة الوحيدة فى الوجود! لمزيد من مقالات وفاء محمود