في هدوئه المعتاد حمل الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص عصاه وتاريخه الحافل وعبقريته الفذة.. ورحل.. ففقدت مصر واحدا من أبرز علمائها عبر العصور وفقد العالم بأسره واحدا من العلماء الأفذاذ الذين تركوا وراءهم رصيدا لا ينفد من المعرفة وتراثا هائلا من الإنجازات العلمية الباهرة وعددا من المؤلفات العلمية الرائدة وعددا كبيرا من تلاميذه الذين أصبحوا علماء كبارا في كثير من المجالات العلمية وخصوصا في علوم النبات والتصحر وصيانة الموارد البيئية. كانت قضية العالم الكبير محمد القصاص الأولي عبر تاريخه هي بناء مستقبل الإنسان المصري علي ركائز علمية واضحة, وقراءة ما جادت به الطبيعة علي مصر من موارد قراءة صحيحة وحمايتها وفق تشريعات مناسبة وتنميتها تنمية رشيدة, ليتكامل الإنسان مع البيئة ويبني كل منها الآخر, حتي لا يدمر كل منهما الآخر. وبرحليه خلا مكانه ومكانتة من رجل علي بساطته وتواضعه يحمل بين ضلوعه عظمة الأهرامات. علي مدي تاريخه الحافل تبني الدكتور القصاص الكثير من الحلول والمقترحات والرؤي البناءة, وتصدي للكثير من التجاوزات والسلبيات التي كانت تسهم في تعميق الآثار السلبية أو تعوق الإنجازات المثمرة, ومن خلال محاوراته مع صفحة البيئة بالأهرام طوال العقدين الماضيين التي كنا نشرف بإجرائها معه كلما سنحت الفرصة لذلك, كانت قضايا التصحر والتغيرات المناخية واحترار كوكب الأرض والمياه والجفاف ونهر النيل والمحميات الطبيعية وغرق المناطق الساحلية والبحيرات وغيرها من القضايا البيئية والتنموية هي محاور النقاش... وفيها جميعا كانت قريحته كنزا لا ينضب, إضافه لعدم رضائه عن المعوقات التي توضع أمام البحث العلمي ومجلس العلوم في الحياة المصرية. وكان إبان العهد السابق وكأنه يقود ثورة ضد الحكومة والنظام بكل أخطائه, ودون خوف أو رهبة من أحد, ودخل في العديد من الصدمات مع رموز النظام السابق, وكانت قضية التغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض والمخاوف من غرق الدلتا بفعل ارتفاع منسوب سطح البحر واحدة من تلك القضايا, ووجه انتقادا لاذعا لوزير الخارجية السابق أحمد أبو الغيط عندما خاطب في ذات الوقت الرئيس الفرنسي ساركوزي مطالبا كليهما بتبني حلول عملية وعلمية للتغلب علي مشكلة ارتفاع منسوب المياه والذي يهدد المناطق الساحلية بالغرق, ومن تلك الحلول اقتراح المهندس الألماني هيرميل سورجل والذي طرحه عام1927, وهو مقترح يتبني فكرة تعتمد علي دراسة الميزان المائي لحوض نهر النيل وانشاء قنطرة عند جبل طارق يتم بواسطتها التحكم في كمية المياه الداخلة للمتوسط من المحيط الأطلسي للحيلولة دون غرق المناطق الساحلية, علي قمة اهتماماته ومرارا وتكرارا كان يحذر من الفقد الهائل من المياه بسبب البخر والذي تجاوز عشرة مليارات متر مكعب سنويا, وبسببه وبعنف شن العالم الكبير هجومه الشهير علي المجلس الاعلي للعلوم الذي كان يرأسه ورئيس وزراء النظام السابق أحمد نظيف ويضم في عضويته جميع وزراء حكومته بل ولفيف من مشاهير العلماء, وكان الهجوم بصفة عامة بسبب عدم وضع المجلس للبيئة ضمن أوليات اهتماماته, منبها إلي التقصير الشديد الذي تعاني منه مصر, ومؤكدا النقص الشديد في الأجهزة والأدوات والتكنولوجيات المتقدمة في مجالات التنبؤ بالتغيرات المناخية, خاصة فيما يتعلق بكميات المطر السنوي بمناطق منابع نهر النيل, وراح ينصح دول النهر العشر بضرورة إنشاء المؤسسات العلمية اللازمة لدراسة التغيرات المناخية في حوض النيل, كما يذكر له انتقاده لأسلوب تدريس علوم الأرصاد الجوية والمناخ في مصر, مؤكدا أن الفصل بينها يعد أمرا غريبا, فالأرصاد الجوية تدرس بكليه العلوم بينما علوم المناخ تدرس بأقسام الجغرافيا بكليه الآداب, والمفروض أن تكون علوما متكاملة لا منفصلة. وكان الموقف الرائع للعالم الكبير الدكتور محمد القصاص دفاعا عن محميات مصر الطبيعية التي عانت الانتهاكات في ظل النظام السابق ومنها القضية الشهيرة ببيع رئيس الوزراء السابق عاطف عبيد جزيرة الجفتون لأحد المستثمرين الإيطاليين واجهاض المحاولة, ثم القضية الثانية لوزير الإسكان السابق محمد ابراهيم سليمان ومحاولته اقتطاع ثلث الغابة المتحجرة بالمعادي لضمها للقاهرة الجديدة, والثالثة الإستثمار غير المقنن لشمال محمية بحيرة قارون, واستيلاء بعض الرهبان علي مساحات شاسعة من قلب محمية وادي الريان بالفيوم, وتبنيه الأفكار البناءة والتنمية المستدامة الحقيقية للأراضي الراطبة في بحيرات البرلس والزرانيق وناصر والبحيرات الشمالية, وكان لجبل علبة ومحميات البحر الأحمر وجزر نهر النيل وخليج العقبة ووادي العقلاني وسالوجا وغزال ووادي الأسيوطي وجميع محميات مصر الطبيعية. وكذلك تصديه للتجاوزات داخل وزارة وجهاز شئون البيئة والصرف بغير حكمة ودون تقنين من صندوق حماية البيئة, وتوجيه جزء ضخم من الميزانية كحوافز ومكافآت لكبار الموظفين, وبلغ الصدام ذروته مع وزير البيئة السابق, وقرر القصاص الإحجام عن حضور اجتماعات الصندوق الذي كان عضوا فيه بعد أن وجده قد انحرف عن الدور الحقيقي له.