بعد تواتر الحديث عن ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات كإحدى ظواهر التغيرات المناخية الراهنة، تحسب صناع السياسات ومتخذو القرار فى كل بقاع العالم لأخطار ماثلة قد تتعرض لها المناطق الساحلية فى دولهم، خصوصا تلك المناطق التى لها وضع ديموغرافى وحضارى وتاريخى شديد الخصوصية. والمثال الأشهر فى هذا المجال هو مدينة البندقية الإيطالية التى يتهددها الغرق تحت البحر الإدرياتيكى من كل جانب. ومن هنا بدأ أهالى المدينة ومحبوها يطالبون بتنفيذ مشروع يتم بمقتضاه إقامة مجموعة من السدود الكبرى حولها، حتى لو تخطت التكاليف كل الحدود. وتأتى تلك المشروعات ضمن ما أصطلح على تسميته مؤخرا بالمشروعات فائقة الضخامة، التى صارت حديث الصباح والمساء فى منتديات المهندسين والاقتصاديين. وتعيد للأذهان أفكارا سبق وطرحها المهندس الألمانى هيرمان سورجل، منذ أواخر عشرينات القرن العشرين وحتى وفاته فى عام 1952، لإقامة سد أعظم على مضيق جبل طارق، يستهدف فى مرحلته النهائية تجفيف البحر المتوسط. غير أن سورجل لم يستطع بالرغم من دأبه تكوين رأى عام يرى رؤيته، فدخل بمشروعه غياهب النسيان لأكثر من نصف قرن. ويعتبر مضيق جبل طارق بمقاييس البحار والمحيطات ممرا ضحلا لا يزيد عمقه على 320 مترا، وضيقا يبلغ عرضه عند أدناه 13 كيلو مترا. كما يعتبر البحر المتوسط نظاما بحريا شبه مغلق يستقبل مسطحه سنويا 1000 بليون متر مكعب مياه أمطار، 500 بليون متر مكعب مياه أنهار، 300 بليون متر مكعب من مياه البحر الأسود عبر مضيق الدردنيل. ويفقد البحر بالتبخير 3600 بليون متر مكعب من مياهه، وعليه فاتزانه المائى شديد السالبية بنحو1800 بليون متر مكعب يستعوضها من المحيط الأطلنطى عبر مضيق جبل طارق. والخلاصة المفيدة لهذه الحسابات تضع المحيط الأطلنطى مصدرا رئيسيا لإمداد البحر بالمياه، فإذا انقطع الإمداد جف البحر. والإطار العام لمشروع سورجل كان جزءا من تصور إقامة «قارة» كبرى نتاجا لاتحاد أوروبا بريا مع أفريقيا بعد تجفيف البحر المتوسط، تعرف باسم أتلانتروبا Atlantropa. وقد اعتقد سورجل أن أوروبا الكبرى التى تمتد بريا من القطب الشمالى للجنوب الأفريقى تستطيع بمواردها الوفيرة منافسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى بدأت تتشكل فى ذلك الوقت كقوة عظمى. ومن المؤسف أن سورجل عايش فكر الاستعمار القديم واستعلاء الجنس الأبيض، فلم يأبه بسكان أفريقيا باعتبارهم كما بشريا مهملا، وربما كان نظام الفصل العنصرى طبقا لما جرى تنفيذه فى جنوب أفريقيا جاهزا للتطبيق على هؤلاء السكان. ويعلن المؤيدون الحاليون لمشروع سد سورجل فى عصر العولمة تبرئهم المطلق من نزعاته الاستعمارية والعنصرية، ويبرزون جدارة المشروع فى عدة جوانب. الجانب الأول هو استغلال فارق منسوب المياه على جانبى السد بين سطح مياه المحيط الثابت وسطح مياه البحر المتهابط، لتوليد طاقة كهربائية تصل إلى 50 جيجا وات عندما يصل فارق المنسوب إلى 50 مترا. وتلك قدرة هائلة قياسا بأكبر محطات توليد الكهرباء فى الولاياتالمتحدة التى تعطى 3.6 جيجا وات، وطاقة محطة توربينات السد العالى فى مصر التى تبلغ 2.1 جيجا وات. ويتعلق الجانب الثانى بالرصيف القارى للبحر الذى سوف يتكشف مصاحبا للمراحل الأولى للتجفيف، وهى مساحة أرضية شاطئية هائلة تبلغ نحو 30% من مساحة البحر، زاخرة بثروات معدنية وحقول للبترول والغاز بكميات ضخمة. وتصلح معظم هذه الأراضى لإقامة مدن ومنشآت إنتاجية وخدمية تستوعب أنشطة اقتصادية واجتماعية كبرى لملايين البشر. ويخدم الجانب الثالث فى صون المناطق الساحلية على امتداد شواطئ البحر المتوسط لنحو 13 ألف كيلو متر من أخطار ارتفاع منسوب المياه، فى أعقاب تأثير تغيرات مناخية متوقعة. وفيما لو صح افتراض أن سطح البحر المتوسط سيرتفع بمعدل متر واحد خلال القرن الحادى والعشرين، فإن إقامة سدود وقائية بطول شواطئه تتطلب توفير مليون دولار للكيلو متر الطولى، بإجمالى 13 تريليون دولار وهو مبلغ يتعدى بضخامته حدود الاستحالة الاقتصادية. وهنا يأتى تنفيذ مشروع سد سورجل كبديل معقول، بتكلفه مبدئية تصل إلى 100 بليون دولار. والجانب الرابع لتأييد مشروع سورجل فى ثوبه الجديد مبنى على اعتبارات بيئية صرفة. فالطاقة الكهربائية المولدة من المشروع فى مرحلة نضجه ستوفر كمية من البترول تعادل 0.78 بليون برميل سنويا، بما يعنى تجنب انبعاث كميات هائلة من ثانى أكسيد الكربون. وبافتراض أن سعر برميل البترول هو 50 دولار فإن النفقات الموفرة تبلغ 39 بليون دولار، بما يظهر أحد جوانب جدارة المشروع بحسابات التكلفة والمنفعة. ويضاف للجوانب البيئية أن بعض عيون المياه العذبة التى تقع حاليا تحت سطح البحر سوف تتكشف مع الأراضى البازغة، حيث يمكن استعمال مياهها فى الزراعة والسياحة والأغراض المنزلية لتمثل نموذجا لما يطلق عليه الواحات الساحلية. ومن الجدير بالذكر أن فرنسا أنفقت أربعة ملايين يورو فى عام 2003 لتصميم وإنشاء شبكة مائية تستقطب مياه أحد عيون المياه العذبة المغمورة على عمق 36 مترا تحت سطح البحر المتوسط، فى المنطقة الواقعة على الحدود الفرنسية الإيطالية. ومع كل هذه الجوانب المضيئة، فمن المؤكد أن العواقب السلبية لمشروع سد مضيق جبل طارق هائلة ومزعجة اقتصاديا واجتماعيا ومناخيا وبيئيا. ولعل أكثر هذه العواقب وضوحا هو تشريك عدد كبير من الموانئ العظمى إلى خارج الخدمة، وخفض معدل سقوط الأمطار على شمال شرق أوروبا بالتوازى مع انخفاض معدل تبخير مياه البحر المتوسط بعد قرب نفاده. ويضاف إلى ذلك أن إتمام المشروع سوف يستغرق نحو نصف قرن بافتراض توافر الاعتمادات المالية اللازمة، فلا يستطيع سرعة مجابهة تأثير تغيرات مناخية ملحة نظير انبعاثات متزايدة من ثانى أكسيد الكربون. وامتهانا للنقاش العلمى البريء الذى يدور حول مشروع سورجل فى السنوات الأخيرة، خرج أحد أساتذة الجيوفيزياء بجامعة منيسوتا بالولاياتالمتحدةالأمريكية يدعى روبرت جونسون، بمقولة شيطانية مؤداها أن احتجاز مياه الأنهار التى تصب فى البحر المتوسط بإقامة السدود عليها، وخصوصا نهر النيل بسده العالى، قد أدى لتزايد ملوحة مياه البحر. ويستتبع ذلك مرور تيارات مائية تحت سطحية لمياه شديدة الملوحة عبر مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلنطى. ويفترض جونسون دون دليل أن «تصدير» أملاح البحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطى سوف يؤثر على مسار تياراته المائية الحرارية، بما يؤدى لتزايد احتمالات نشوء «عصر جليدي» يجتاح المناطق الشمالية لكندا وأوروبا الغربية خلال العقود الأخيرة للقرن الحادى والعشرين. ولتفادى هذه الاحتمالات يقترح جونسون بناء سد ركامى عبر ممر جبل طارق، يقام كحاجز مغمور يمنع حركة مياه البحر العميقة شديدة الملوحة صوب الأطلنطى. ويبلغ ارتفاع السد ضعف ارتفاع الهرم الأكبر(!) وعرضه عند قمته 70 مترا، وحجمه 1.3 كيلو متر مكعب، أى ضعف حجم الهرم الأكبر بمقدار 420 مرة(!). ويستدرك جونسون بعد تفصيل كل هذه المواصفات التى ينسبها لا شعوريا للهرم الأكبر دون مقتضى، مؤكدا أن عمليات إقامة الحاجز المغمور فى منطقة جبل طارق سوف تستغرق عقودا زمنية طويلة، وتتطلب تكاليف باهظة. وبناء على ذلك يقترح فى إطار عرض علمى خبيث، تدمير السد العالى لتجنب قدوم عصر جليدى جديد إلى المناطق الشمالية فى كندا وأوروبا الغربية. فماذا يفعل أصحاب السد العالى مع كل هذا الافتراء الشرير؟