الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني.. جزاة الخير واحساني والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتي الغير ما صافاني والتالتة باريس وفي باريس جهلوني وانا موليير في زماني لم يبالغ بيرم التونسي في تصورنا أدني مبالغة عندما شبه نفسه بعملاق المسرح الفرنسي موليير.. بل انه بالفعل موليير المسرح العربي الذي لم يأخذ حقه من التقدير.. وعلي الرغم من وجود مسرح يحمل اسم بيرم التونسي في الإسكندرية فإن أعمال بيرم المسرحية مازالت مهملة, وحتي مسرحه في الشاطبي ليس متخصصا في تقديم المسرح الاستعراضي وفن الأوبريت, بل إنه لا يعمل إلا في الصيف ويتم تجهيزه بالإضاءة والصوت اللازمين عند الحاجة ثم يعاد إغلاقه باقي أشهر السنة, وكأن جمهور الإسكندرية ليس له حق في الاستمتاع بفن المسرح ورسالته. عاش بيرم التونسي حياة شاقة وتعيسة وتعرض للنفي ما يقرب من عشرين عاما لكن ذلك لم يمنعه من تأليف واعداد عشرين أوبريتا لا تزال من أفضل ما أنتجه المسرح العربي علي مستوي فن الأوبريت. ومن أعماله ليلة من ألف ليلة.. وعقيلة المقتبسة عن ميديا ليوربيدس, كما تؤكد الدكتورة فاطمة موسي في موسوعة المسرح المصري.. وعزيزة ويونس المأخوذة عن السيرة الهلالية والتي لمعت منها أغنية يا صلاة الزين علي عزيزة من تلحين الموسيقار زكريا أحمد ومسرحية طباخة بريمو ومايسة وبترفلاي وسفينة الغجر ثم الشاطر حسن وبنت السلطان اللتان قدمهما مسرح القاهرة للعرائس وكانت الشاطر حسن هي أول مسرحية يفتتح بها مسرح العرائس قبل عامين من انتاج الليلة الكبيرة للشاعر صلاح جاهين أحد أهم وأبرز تلاميذ بيرم التونسي, والذي قال في وداعه: مات زي ما كتف الجبل يتهد مات باقتدار وفخار ما قالش لحد وجنازته اهه ماشية في شارع السد والنعش عايم في الدموع في عينيا ونعود إلي التراث المسرحي لعمنا بيرم لنذكر عملين من عيون المسرح الغنائي العربي الأول هو شهر زاد أو شهو زاد كما كتبها بيرم ساخرا من الملكة التي تضعف أمام شهواتها.. وتقرر ترقية الجندي البسيط زعبلة من درجة مجند هزؤ بزؤ علي حد تعبير المؤلف إلي رتبة قائد الجيوش.. فقط من أجل اعجابها به ويوافق ذلك الشاب المصري كريم العنصرين علي مواجهة الأعداء والتعرض للموت في سبيل الوطن, لكنه لا يوافق أبدا أن يخون مشاعره ويتخلي عن حبيبته الفقيرة ويستبدلها بالملكة المتحكمة ويقول لها أنا إن هاجت دموعي ولا هبت نار ضلوعي كل ده طالب رجوعي تاني للبر الأمين طول ما نهر النيل بيجري أنا لا أنذل عمري وان حكمتي أي مصري احكمي عالمستحيل كان بيرم في اوبريت شهر زاد ثائرا محرضا علي الثورة, وساخرا أشد السخرية من الحكام الفاسدين واتباعهم من المنافقين والإمعات.. ولعله لخص بعبقرية منطق المتسلقين والإنتهازيين في كل مرحلة قائلا علي لسانهم: علشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي أما الأوبريت الثاني فهو يوم القيامة, وقد كتب أغانيه بينما كان النص المسرحي لمؤلف آخر وكان هذا أمرا عاديا في عصر بيرم حيث يتلاحم المبدعون من أجل إنجاح عمل معين دون اعتبارات المنافسة أو الغيرة الفنية وأهمية أوبريت يوم القيامة أنه يقدم فكرة غير مسبوقة وغير متشابهة مع أي نص أجنبي, وبمعالجة شديدة الطرافة وذات ايقاع سريع يسبق زمنه حيث أنتج الأوبريت في عام1943, وهو يحكي عن قيام بعض رجال السياسة والتجارة بترويج شائعة مؤداها اقتراب يوم القيامة وحلول الساعة بهدف شغل الناس عن غلاء الأسعار, بفرض ضرائب جديدة كان هدف أصحاب الشائعة إلهاء الناس مؤقتا عن مشاكلهم اليومية, لكن الشائعة تنتشر بقوة ويصدقها الجميع فيسرع بعض الفاسدين خلقيا إلي اعلان التوبة والزهد في ملذات الحياة, بينما يقرر آخرون من أدعياء الوقار والفضيلة التمتع بالحياة في آخر لحظاتها ويندم الأب الطامع في تزويج ابنته من أحد الأثرياء ويقرر أن يترك لها الحرية لتختار بقلبها وإرادتها من يسعدها.. وهكذا تتغير حياة كل أبطال الأوبريت بشكل كوميدي محبوك, وتشكل أشعار بيوم أجزاء أصيلة من النص بحيث يضيع المعني والتسلسل إذا حزفت بعض الأشعار, ولعل أغلبنا يعرف أغنية يا حلاوة الدنيا يا حلاوة التي كانت جزءا من أغاني ذلك الأوبريت ونجحت عند تقديمها خارج العمل الدرامي, في أوائل شهر مارس ولد بيرم التونسي الذي عاش تعيسا مطاردا لكنه لم يترك خلفه إلا البسمة والجمال والأعمال الفنية الراقية.