جمعني الزمان وما أجمل ما جمع.. وما أوحش ما فرق.. في واحدة من ألاعيبه وتفانينه التي لا تتكرر.. في يوم واحد بعمنا وتاج راسنا الشاعر الغنائي العظيم بيرم التونسي.. ومعه أسطورة الألحان الشرقية الشجية زكريا أحمد.. كان الأول يسير هائما علي وجهه في شارع سليمان باشا أيام عزه ومجده أيام كانوا يغسلونه فجرا بالماء والصابون.. وكنت أنا يادوب أحبو في بلاط صاحبة الجلالة ومعي زميلي ورفيق دربي عبدالوهاب مطاوع وكان قلمه أيامها مازال بكرا لم ينغمس وينغرس لشوشته في حكاوي وشكاوي ومواجع البيت المصري وسيرته الجميلة الطيبة والنكدية في كل عصر وكل أوان. وكانت أحلامنا أيامها نحن الاثنين لا تزال غضة ندية مثل البنت البكر.. لم تبلغ بعد سنين الحلم بالفارس الجميل.. أما الثاني فقد كان اللقاء معه في مقهي الفيشاوي.. وأعني به الفيشاوي الكبير نفسه الذي كان لا يزال حيا يرزق.. يأتي راكبا حصانه الأدهم البني اللون إلى المقهي العتيق الذي كان ضعف حجمه الحالي.. ثم يربط السايس عم سلطان الفرس الجامح علي باب المقهي.. ثم نجلس كلنا صحبة واحدة.. عمنا الفيشاوي الكبير علي كنبة عالية.. ليأتي الغلام ببراد القهوة العربي والشيشة العجب.. ونحن من حول عمنا الفيشاوي الكبير قاعدين مبسوطين منسجمين وآخر تمام.. وكان ضيفنا العزيز هو عمنا زكريا أحمد الملحن العظيم صاحب الأغنية الأسطورة لأم كلثوم.. هو صحيح الهوي غلاب.. نسيت أن أقول لكم إن صديقي العزيز عبدالوهاب مطاوع قد صحب معه الشاعر العظيم بيرم التونسي ودعاه إلي فنجان قهوة علي المقهي التاريخي أيام عزه ومجده قبل أن يقتطعوا نصف مساحته من أجل فندق الحسين الشهير. وهكذا اكتمل جمعنا.. في المقدمة عمنا بيرم وعمنا زكريا وعمنا الفيشاوي.. ودار الحوار أيامها مثل سلاسل الذهب عيار أربعة وعشرين قيراطا.. فماذا قالوا.. وماذا قلنا؟ ....................... ....................... في صحبة الحاج الفيشاوي الكبير.. قال بيرم التونسي: لقد طلبت مني السيدة أم كلثوم بالأمس أغنية عن الورد لكي تغنيها في فيلمها الجديد »فاطمة« الذي ألفه الصحفي الكبير مصطفي أمين.. طيب نقول إيه عن الورد.. نقول الورد جميل.. يرد عمنا زكريا بعفوية: نقول جميل الورد.. قلنا أنا وعبدالوهاب: الورد جميل.. جميل الورد.. قال عمنا بيرم: شوف الزهور واتعلم عن الحبايب تتكلم.. أيوه هو ده مطلع الأغنية وبعدين لو أهداه حبيب لحبيب يكون معناه وصاله قريب.. ثم انزوي عمنا بيرم جانبا وراح يكتب ويكمل أبيات الورد جميل.. ثم أكمل باقي أغاني الفيلم بأغنية هأقابله بكرة.. وبعد بكرة.. ثم وضع ما كتبه في جيب جاكتة عمنا زكريا أحمد وقال له: وكمان وحياتك ما تنساش الأغنية دي! ...................... ...................... ينظر إلينا عمنا بيرم التونسي ويقول: فيه أغنية عن العيد كتبتها للسيدة أم كلثوم بتقول إيه كلماتها يا عم بيرم؟ قال: زي القمر يطلع نوره من بعيد لبعيد.. ولما يهل هلاله يحسبوا المواعيد.. الليلة عيد.. عا الدنيا سعيد.. أذكر أننا عبدالوهاب وأنا سألنا عمنا بيرم التونسي: من هو الشاعر وكاتب الأغاني الذي يقف رأسا برأس معك؟ قال: الشاعر عزيز أباظة صاحب أغنية: يا منية النفس مانفسي بناجية التي غناها محمد عبدالوهاب + أحمد رامي صاحب بديع الكلمات التي شدت بها كوكب الشرق + حسين السيد صاحب أغنيات فيلم رصاصة في القلب لعبدالوهاب وراقية إبراهيم.. التي غني فيه عبدالوهاب: فيه يا تري شخص يحبك شاغلك ومشغول به قلبك..والشخص ده موجود هنا.. قالت راقية إبراهيم جملتها الصادمة: بالطبع لأ! سألت يومها بيرم التونسي: فيه حد زيك دلوقتي في الشعر والأغاني والأوبريتات الغنائية؟ قال بتواضع شديد: كتير.. أنا آخر واحد واقف في الصف فيهم.. أنا أحب كثيرا أغاني وأشعار مرسي جميل عزيز! ........................ ........................ الجلسة الثانية جمعتني مرة بالموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب الذي قدم علي الشاشة أول أغنية من الوضع المتحرك علي حد تعبيره هو فقد كان المطرب زمان يقف علي المسرح كأنه قد مسمروه وهي كلمة عبدالوهاب نفسها في مكانه لا يتحرك منه أبدا.. حتي جاء المخرج العبقري محمد كريم ففك أسر المطرب والمطربة وجعلهما يغنيان من الوضع المتحرك.. كما حدث في أفلام «الوردة البيضاء» و«لست ملاكا» و »رصاصة في القلب». واسمحوا لي عبدالوهاب يتكلم أن أضع اسم حسين السيد مؤلف الأغاني، إلي جانب عباقرة الكلمة الحلوة أمثال بيرم التونسي وأحمد رامي.. أما الملحنين فلا ننسي أبدا عمنا محمد القصبجي.. أقاطعه بقولي: لقد شاهدت بعيني في عام 1959 في موسكو في مسرح البولشوي صورة لمحمد القصبجي كتبوا تحتها ملك العود! عبدالوهاب يتابع حديثه: لكن الذي هزني حقا وأشعل مهجتي وأيقظ شيطان الفن في عروقي.. فقد كان إيليا أبوماضي الشاعر التونسي العريق الذي كتب كلمات أغنية عبدالوهاب هو يغني دون عود: جئت لا أعلم من أين.. ولكن أتيت.. وسأمضي سائرا.. إن شئت هذا أم أبيت.. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي.. لست أدري! أكمل أنا: أنا لا أعلم شيئا عن حياتي الماضية ولا أعلم شيئا عن حياتي الآتية.. سكت الهرم الموسيقي الذي اسمه عبدالوهاب وهو ينظر إلينا ويقول: تصوروا.. عندما ذهبوا إلي تونس ومعهم أسطوانة أغنيته التي كتبها.. ماذا فعل؟ ألقي بها بعيدا.. وقال: من أذن لكم بتحويلها إلي اسطوانة؟ قلنا لعبدالوهاب: لم؟ قال: أنا لا أعرف! قبل أن أنسي.. أذكر أنني سألت موسيقار الأجيال: ما هو أكثر شيء أسعدك في حياتك الفنية؟ قال: يوم أن غنيت للشاعر أحمد شوقي صديقي ومرشدي في الحياة: في الليل لما خلي.. قلت: وأحلي بيت فيها؟ قال: لمح كلمح البياض جوه العيون الجميلة.. هناك نواح على الغصون.. وهنا بكا في المضاجع! أسأل عبدالوهاب العظيم الملك المتوج للغناء العربي والموسيقي العربية: أشياء كثيرة أسعدتك.. يقاطعني: وأشياء كثيرة أبكتني! أسأله: لن أسألك عما أسعدك.. سأسألك عما أبكاك؟ قال: لقد بكيت بالدموع عندما اختاروا قصيدة الأطلال لأم كلثوم ورياض السنباطي كأحسن أغنية وأحسن لحن في سمع الغناء العربي.. سألت صديقي الشاعر الغنائي مصطفي الضمراني صاحب الأغنية الشهيرة: ما تقولشي إيه ادتنا مصر.. قول ها ندي إيه لمصر.. التي غنتها عليا التونسية.. وقال عنها يوسف السباعي أيامها إنها أجمل أغنية مصرية علي الإطلاق! سألت صديقي الشاعر الغنائي: من هم أعظم من أنجبتهم مصر من كتاب الأغنية؟ قال: تاريخ الأغنية المصرية يمتد زمانا طويلا طويلا من أيام أبوبثينة وابن عروس ثم بيرم التونسي.. ثم جاء أحمد رامي وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وأحمد فتحي.. ومن بعدهم جاء فتحي قورة وحسيب غباشي وبخيت بيومي ثم أحمد شفيق كامل وعبدالرحيم منصور ومرسي جميل عزيز وعبدالرحمن الأبنودي.. أسأله: طيب والأغنية التي مازالت تعشعش في رأسك؟ قال ضاحكا: أغنية انزل وحياتك انزل.. بلاش غرام في المنزل! أسأله: بتاعة مين بسلامته؟ قال: بتاعة شكوكو! ........................... .......................... نحن أكثر شعب يغني لمصر.. ولكننا في الوقت نفسه أكثر شعوب الدنيا تخريبا وتكسيرا وضربا وتحطيما في اسم مصر والناس في مصر.. إذا لم تصدقوني.. انزلوا إلي الشارع وشوفوا الناس بتغني إيه الأيام دي.. عينه مني.. ويا واد يا أبوعين زايغة.. خللي الحريقة في بيتكم قايدة! وإبعدوا عن سكتى من غني: اديني من وقتك ساعة لأزقك تقع في البلاعة{! Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى