في يوم من الأيام طرق أحد الغرباء باب بيت الأديب الكبير الراحل الدكتور يوسف عز الدين عيسى واستأذن في مقابلته، وكان ذلك ليخبره بأن استماعه للمسلسل الإذاعي «عواصف» وللتحليل النفسي البارع فيه قد ساعده إيجابا في علاجه من أزمة نفسية كانت قد ألمت به، وأنه جاء لأنه أراد أن يشكر مبدع هذا العمل بنفسه وليذكر فضله عليه، واكتشف الدكتور يوسف أن هذا القادم قد حضر خصيصا إلى الإسكندرية من أسيوط ! وأنه عائد في اليوم نفسه. فإذا كان النص الدرامي الإذاعي كان له كل هذا الأثر على أحد المستمعين إليه، فإن النص الروائي المنشور حديثا له بالتأكيد تأثير أعمق وأشد.صدرت رواية «عواصف» هذا العام (2015) للمرة الأولى منذ رحيل كاتبها، عن الدار المصرية اللبنانية، وهي مستهلة بجملة شيقة على غلافها : «رواية الكاتب الأخيرة التي لم تُنشر من قبل»، فقد حدث أن فقد الدكتور يوسف عز الدين عيسى النسخة المكتوبة بخط يده، ورحل عن عالمنا وهو حزين على ذلك، حتى عثر عليها بالمصادفة أبناؤه الأبرار الدكتور أيمن وفاتن، فقررا العمل على نشرها والسهر على دقة خروج نصها وجودة طباعتها إيمانا منهما بأنها أمانة عليهما إيصالها إلى قرائها كما أراد لها كاتبها الكبير، وقد كان.
وقد شهد معرض القاهرة الدولي الأخير للكتاب ولادتها التي بدت متعثرة وطويلة، لكنها أبت إلا أن تخرج إلى الحياة، وكأن ثنائية الموت والحياة التي عاش كاتبها الكبير طوال حياته يكتب عنها ويتأثر بأصدائها قد أرادت أن تتجسد في أمر يخصه، في مفارقة قدرية نادرة التكرار : عملُ فُقد في حياة كاتبه لكنه خرج رغم ذلك إلى النور ورغم كل الصعوبات بعد أكثر من عشر سنوات من رحيل هذا الكاتب !
رواية «عواصف» رواية من القطع المتوسط، تقع في 24 فصلا، في حوالي أربعمائة وستين صفحة، وهي رواية ذات صبغة سيكولوجية ونكهة تشويقية لا تخلو من حبكة بوليسية، لا يكاد القارئ يبدأها حتى يأبى أن يتركها إلا بعد الانتهاء منها، فسيكون في حاجة إلى فك شفرات كل الألغاز التي يطرحها الكاتب بخفة أسلوبية وبراعة سردية.
وأول ما يقابله القارئ في هذه الرواية، وقبل بداية النص الأساسي، عبارة لكاتبها تقول : «إن أقسى العواصف هي تلك التي تجيش في النفوس»، ومن واقع هذه العبارة الاستهلالية العميقة يقطع القارئ نصف المشوار لفهم محتوى الرواية : فهو يفهم مدلول عنوانها، كما يفهم أن محتواها ذا علاقة مباشرة بمعضلات النفس البشرية وسراديبها، وسيعتريه الفضول حتما لمعرفة تفاصيل الموضوع، فقد يجد شيئا يشبهه، أو فكرة تخصه، أو حكاية لها مردود في حياته، فيشرع في القراءة، لتستقبله عبارة : «بدت الطبيعة في ذروة غضبها وقسوتها»، فيتردد ثانية عنوان الرواية في ذهنه قبل أن يشرع في استكمال القراءة منهمكا بدخوله الفوري إلى حيز المشكلة : الشابة سهير وأفكارها ومشاعرها ومعاناتها.
فبطلة الرواية شابة مسكينة لديها شعور متجذر ودائم بأن أباها لا يحبها، وأن أختها فاتن أجمل منها، وأنها ليست جميلة ولا تستحق الاهتمام بها ولا حتى النظر إليها، إلى آخر حزمة من الأفكار السلبية التي تعكس إحباطا مغروسا في نفس الفتاة منذ طفولتها المبكرة. وقد تعززت هذه المشاعر السلبية بالتصرفات العشوائية لأب يُفترض فيه الثقافة وسعة الأفق بحكم كونه محاميا مرموقا، هذا بالإضافة إلى كونه ميسور الحال تعيش ابنتاه سهير وفاتن في ظل حياة كريمة ورغدة، إلا أن هذا الأب يفاجئنا بسلسلة ممنهجة من التصرفات العشوائية والهمجية، فيمعن في جرح ابنته سهير والاستهانة بها وبمشاعرها وبأبسط تصرفاتها في الوقت الذي يعلي فيه من قيمة أختها فاتن ويحنو عليها ويحسن معاملتها، حتى تصاب سهير بهلاوس سمعية وبصرية، وتبدأ في تخيل رؤية وسماع أشياء ما هي إلا انعكاس لكل هذا المرار الذي تتجرعه نفسها الصافية يوميا منذ ولادتها وحتى وهي على أعتاب الثلاثين.
ويفهم القارئ مع الوقت أن المشكلة برمتها تبدأ عند الأب الذي أنجب أولا ابنته فاتن فأحبها حبا جما، ثم طمع في وريث ذكر رغم مرض زوجته بالقلب وخطورة الحمل الثاني على صحتها وحياتها، إلا أن رابطة الحب الكبير بينهما جعلتها تقبل المخاطرة، وجعلته يشجعها عليها، فجاءت سهير إلى الدنيا ورحلت الأم بعد الولادة متأثرة بمرضها، فأسقط الأب جام غضبه على الفتاة البريئة متهما إياها بكونها السبب في موت زوجته الحبيبة !
ويسير الخط السردي متمهلا في الوصف النفسي لأبعاد تأثير كل لفظ على كل شخصية – وخاصة سهير – حتى تظهر شخصية الطبيب النفسي، حلال العُقد، الذي تبدأ الانفراجات من عنده وتنتهي إليه، فهو الذي سيساعد سهير ليس فقط على تجاوز محنتها الشخصية، لكنه أيضا سيساعدها على اكتشاف أمر جلل حدث لأختها المخطوبة لضابط شرطة ناجح : زواج هذه الأخت من التوأم المجرم لهذا الضابط دون إدراكها لذلك، وعدم اكتشاف أي مخلوق لهذه الحقيقة المريرة سوى سهير التي لا يتورع الجميع عن اتهامها بالهلوسة وبالجنون، حتى تتكشف الحقيقة بعد أن يكون الزواج قد تم بالفعل، حيث يساعدها الطبيب في حبك خيوط الفخ للمجرم بالتنسيق مع الشرطة مما يؤدي إلى ضبط المجرم متلبسا بمحاولة قتل سهير، فيلوذ بالفرار قفزا من النافذة ليسقط جثة هامدة.
إن أهم ما أبدع فيه الكاتب في هذه الرواية ليست فقط قدرته الفائقة على التحليل النفسي، وليست فقط قدرته على نسج خيوط ما هو نفسي وبوليسي واجتماعي في ضفيرة متناسقة، لكن المدهش حقيقة هو قدرته على رصد الحركة الدائرية للحياة، وتقديمها ببساطة متناهية رغم ما تحمله من عمق وتعقيد. ولا أدل على ذلك من مشهد الرواية الأخير الذي تقف فيه الفتاة فاتن - التي بدت منتصرة طوال الرواية – في الشرفة في مكان سبق لأختها سهير – التي بدت مقهورة طوال الرواية أيضا – الوقوف فيه، وقد تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال، فإذا بسهير سعيدة مع خطيب يحبها مما ساعد على شفائها تماما من كل ما كانت تعاني منه، وإذا بفاتن تعيسة بعد أن فقدت نهائيا سعادتها، وذلك بزواجها بالخطأ من شخص غير خطيبها، ثم اكتشافها الحقيقة المفجعة لهذا الشخص، لتكتمل المأساة بموته، وبرفضها العودة إلى خطيبها الأصلي، وباعترافها لنفسها في النهاية بأنها كانت قاسية على أختها !
إن «عواصف» رواية بديعة التكوين بسيطة المظهر عميقة المخبر تجعلك تفكر كثيرا في نفسك وفي نفوس الآخرين، وتجعلك تحسب حساب كل لفظ تقوله قبل أن تلفظه، فلربما يغير هذا اللفظ حياة من يسمعه إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، وتجعلك تضع ألف حساب لتلك العواصف التي تجيش في النفوس (كما يقول الكاتب) ولا تراها العيون، ولكل منا عواصفه، فليحذر كل منكم عواصف نفسه وليروضها وليهذبها، وليحترم عواصف نفوس الآخرين، فقد تعبر عن آلام تفوق الوصف وعن معاناة فوق طاقة التحمل.