منذ طفولتي وأنا أحب أن أتطلع إلى البيوت من خارجها، وقد يكون لدي عادة سيئة، وربما لا أخلاقية: أحب، وأنا في الشارع، أن أنظر إلى داخل نافذة مفتوحة في أحد البيوت، وأحاول أن أتبين أي شيء بداخل الغرفة المفتوحة نافذتها: النجفة، الدولاب، شخص مار، مروحة سقف.. ومن خلال المعلومات الضئيلة التي جمعتها عن الغرفة، أبدأ في تخيل قصة كاملة للبيت، ولسكانه، وتاريخه، ومن الذي كان يقطنه من قبل، ومن الذي يقطنه الآن؟ لو طلبت مني أن أدخل المنزل لرفضت، أحب أن أرى البيت من الخارج، وأجمع معلومات منقوصة عن أثاث المنزل وسكانه عبر النوافذ والشرفات المفتوحة، لأبني عليها قصصا في خيالي. كانت هواية قديمة ، وظلت معي حتى الآن. لكنني لا أحب كل البيوت. أحب البيوت القديمة فقط. أحب مداخلها. شرفاتها المنحوتة بعناية. نوافذها التي ينبعث نور النجف من خلال ستائرها المتربة. البيوت القديمة تعطيني فرصة كبيرة لتخيل القصص، أبني تاريخا كاملا لسكان البيت. أتخيلهم في كل مرحلة تاريخية. أتخيل السيدة الجميلة وهي تتجول في بيتها في الأربعينيات، والفتيات النابغات وهن يتقافزن في جنبات البيت في الخمسينيات، أو الأم وهي تعد طعاما شهيا في الستينيات، لا أحاول تخيل السبعينيات لانها مرحلة ليست شيقة بالنسبة لي، أما الثمانينيات فهي باهتة، لكنني أقفز من الستينيات على الوقت الحاضر، ربما بداية الألفينات، بعد رحيل أصحاب البيت، ربما هجرتهم، أو تركهم المكان لبيت أفضل... أو أسوأ، ربما موت أشخاص منهم، أحزان، غياب للبهجة التي كان يعج بها البيت، ثم أشخاص آخرون يستأجرون العقار، أو ربما شخص أنعم الله عليه بالمال فاشتراه، اشتراه لأنه ظل يحلم أن يسكن هذه الشقة الفاخرة طوال سنوات فقره، وما إن جمع المال، بشكل مشروع أو غير مشروع، حتى اشترى الشقة التي كان يمر من أمامها متشوقا. عقار خلف عقار، تحولت المنطقة التي كانت في يوم من الأيام «راقية» إلى منطقة شعبية، يسكنها أناس مكافحون، لهم أصول شديدة الفقر، لكنهم بالعمل والكد حققوا حلمهم بالسكن في شقة أحد أبناء الطبقة التي طالما ظلمتهم، وطالما أحبوها واعتبروها مثلهم الأعلى. هل ذكرت النساء فقط في البيوت؟ نعم.. دائما ما ارتبط البيت في ذهني بالمرأة، لو انه بيت جميل فسيدته جميلة، ولو انه بيت قبيح فسيدته مسكينة. قد يكون انحيازا، ولكن، ما الضرر؟ إنه خيالي الشخصي، ابني فيه ما أشاء. لهذا السبب تحديدا لا أحب قيادة السيارة، أحب أن أترك هذه المهمة لشخص آخر، بينما أسرح أنا في البيوت، أجول ببصري أبحث عن عمارة قديمة، جميلة، حتى أجدها، فأختار إحدى الشرفات، وأتمعن النظر إليها، حتى أتمكن من معرفة لون الستارة، أو رؤية بعض الأثاث، ثم أبدأ في نسج القصة. يزعجني أن يقاطعني أحد الذين يستقلون السيارة معي: مالك؟ سرحانة في إيه كده؟ علمت الآن انني أحب السير في شوارع مثل حدائق القبة، والعباسية، والحلمية، والزيتون، وكل المناطق التي كانت تنعم بعز زائل، فهي مناطق خصبة لحياكة القصص التي تشبه المسلسلات التاريخية التي تنقسم إلى عدة أجزاء. أحب السير في شارع مصر والسودان، الذي كان اسمه قديما: شارع ملك مصر والسودان، لأن الملك فاروق كان يقطن في نهايته، لكنني لا أحب السير فيه في وسط النهار، أفضل وقت للسير في هذا الشارع كي تستمتع بطعم البيوت، هو الصباح الباكر، ربما في تمام السادسة صباحا. سترى قصورا وسرايات مغلقة، بعضها مهجور، قد تكون محل نزاع بين الورثة، وقد يكون الورثة كلهم ماتوا. بعض السرايات تحولت إلى مدارس، استهلكت السرايات في استخدام غير آدمي، خاصة مع كتابة بعض النصائح الممجوجة، والأقوال المأثورة المكررة حتى الغثيان على جدران السرايا. كثير من السرايات تم هدمها لبناء أبراج قبيحة. لكنني بالطبع أحب التجول أيضا في حي مصر الجديدة الذي أعتبره أجمل بقاع القاهرة، وكذا في الزمالك. ففي الحيين بنايات تسمح لي ببناء القصص التي أسلي بها نفسي طوال الطريق وأنسى بها الزحام وعادم السيارات وسباب المواطنين لبعضهم البعض. لماذا لم تتحول – حتى الآن – مصر الجديدة والزمالك إلى منطقتين شعبيتين؟ ربما لأن الأولى أحدث قليلا من المناطق السابق ذكرها، وربما لأن الزمالك بها نواد وسفارات وسكان أجانب، يقطعون الطريق على الحالمين من أبناء الطبقات الشعبية، الذين رزقهم الله ببعض المال، من الولوج إليها. ليس لدينا طبقة ارستقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالميا، ولم يكن لدينا في يوم من الأيام، حتى في زمن الباشوات والبكوات. كان هناك، ودائما ما يكون، طبقة متوسطة عليا، تحاول التشبه بالطبقة الأرستقراطية الغربية، ليس إلا. لم يكن لدينا في يوم من الأيام طبقة للنبلاء التي تتوارث الدم الأزرق، وهذا في حد ذاته من مميزات مصر، فهناك من كان يحصل على الباشوية أو البكوية لأسباب مهنية، كأن يكون قد حقق إنجازا ما في مهنته، أو لأسباب مادية، كأن يكون ثروة ثم يشتري بماله اللقب، أو أسباب سياسية كأن يثبت ولاءه للأسرة المالكة بأي شكل من الأشكال – غالبا ما يكون شكلا مهينا – وهناك من حصل على الباشوية أو البكوية لإنه ألقى نكتة أعجبت الملك. الخلاصة، فإن أصحاب هذه الألقاب لم يكونوا في يوم من الأيام من «سلالة» تختلف عن بقية الشعب. الملاحظ في قصص كل المناطق التي تسمى «راقية» إن لها قصة واحدة: منطقة جديدة يتم تدشينها، يذهب إليها أبناء الطبقة المتوسطة العليا أملا في الاستمتاع بمكتسباتهم، والهروب من الزحام، والإزعاج، و... فئات الشعب الأفقر. هذه هي القصة من الحلمية وحدائق القبة والعباسية وحتى التجمع الخامس والرحاب، دائما قصة واحدة. بعد فترة، تزدحم هذه المناطق، وتتكدس، وتتحول من منطقة نائية على أطراف المدينة بعيدة عن التلوث، إلى منطقة في قلب المدينة، بعد أن تقوم مشروعات سكنية أكثر تطرفا وبعدا. مع التكدس والازدحام، تصبح العقارات في متناول بعض أفراد الطبقة المتوسطة الدنيا، ثم تبدأ الأسواق الشعبية في التسلل إلى هذه المناطق، فيشعر أبناء الطبقة المتوسطة العليا بالانزعاج الشديد، فيهربون إلى مكان آخر، تاركين عقاراتهم للإيجار أو البيع، فيشتريها من كان فقيرا ففتح الله عليه ببعض المال وكان يحلم بالسكن في هذه المنطقة، رويدا رويدا، تتحول المنطقة إلى سكن شعبي. قد يتسنى لنا أن نتحدث لاحقا عن تاريخ كل منطقة من هذه المناطق بالتفصيل، فلي اهتمام بمتابعة تاريخ المناطق السكنية. وهكذا، وعلى مر تاريخ البيوت، تظل الطبقة المتوسطة العليا تحاول الهرب من فئات الشعب الفقيرة، والتي تشكل الأغلبية، وتظل فئات الشعب الفقيرة لا تشعر بأي إهانة أو غضب، بل على العكس، تقوم بمطاردة الطبقة العليا، بحب وشغف، ومحاولة للتشبه والتشبث بها، و«هاتوا بوسة» - “ييييييي أوعوا بقىىىىىىى». قلنا إن أبناء الطبقة المتوسطة العليا يهربون إلى المناطق السكنية الجديدة، فلماذا لا يهرب إليها الفقراء، خاصة انه من المتعارف عليه، ان افتتاح منطقة سكنية جديدة في قلب «الصحراء» يصاحبه رخص في أسعار العقارات،. الفقراء لا يحبون الهرب من الزحام. الفقراء هم الزحام. ليس لديهم أي مكتسبات يريدون التمتع بها بعيدا عن «الدوشة» فمكتسباتهم الوحيدة هي «الدوشة». العلاقات الإنسانية: الأهل، والجيران، والباعة المحيطون بالسكن، وأهل الأهل، وجيران الجيران. لا يقوى الفقير على الذهاب للعيش وحده بدون كل هؤلاء، اللهم إلا إذا اضطر إلى ذلك كأن ينهار منزله، أو كأن تقوم الدولة بطرده من سكنه لانها ترغب في استخدام المنطقة التي يقطن بها لأي هدف من الأهداف. المفيد في هذه المطاردات الغرامية بين طبقة تتطلع إلى ثقافة مغايرة، وطريقة حياة مغايرة، وبين طبقة تركض خلفها، هو افتتاح مناطق سكنية جديدة، تبنى بطريقة جمالية، قد تظهر في بدايتها مزعجة، تماما كما أرى أن منطقة التجمع الخامس منطقة مزعجة، لكنها ستكتسب جمالا مع مرور الزمن وتناوب القدم عليها، وما إن تكتسب هذا الجمال التاريخي، حتى يهجرها سكانها الأصليون، ويذهب ليعمرها الأفقر فيعطونها بعدا دراميا جديدا مما يساعد خيالي على بناء القصص وتذوق طعم البيوت طوال الطريق المزدحم.