في مارس 1964 قتل الملك فاروق في روما. كانت الجمهورية المصرية قد طردت ،بقرار أمريكي ،من «الحقبة الذهبية». وكان حلف الناتو الذي حل محل حلف بغداد في بداية تحرك ضمن مخطط دولي لإسقاط عبد الناصر ، وهو المخطط الذي لحق به سيد قطب وزينب الغزالي في 1965. الظروف التي قتل فيها فاروق كانت ظروف تآمر دولي علينا ،فهل لعب فاروق دورا في هذا التآمر استحق عليه حكما بالإعدام؟ هل ظلمه من قتلوه متصورين أنه متآمر وهو في الحقيقة برىء؟ قرأت في العدد الأول والأخير من مجلة رأس تحريرها المرحوم فتحي عبد الفتاح ،في السبعينات على الأرجح، إعلانا عن موضوع ،كان يفترض أن يظهر في العدد الثاني ،بعنوان«كيف قتلت الملك فاروق» بقلم ضابط شرطة سابق نعرف جميعا أنه ذهب مع صلاح ذو الفقار لحضور دورة تدريبية على مكافحة الإرهاب في لندن ،ثم عاد الاثنان لينضما للفدائيين في القنال ،واتصل هو بالضباط الأحرار ،وأصبح بعد قيام الجمهورية من أهم رجال عبد الناصر. أعرف الرجل من قراءاتي له وعنه ،وأعلم علم اليقين أنه لايكذب. ولم يصدر العدد الثاني من المجلة لنعرف تفاصيل الحكاية الرهيبة ،التي ذكر بعضها كُتّاب من أمثال وليم ستادين في كتابه عن حياة فاروق. لكن استقر في يقيني من تلك الحظة أن حكومتنا قتلت فاروق. فهل هذا صحيح؟ من سخريات التاريخ أن الرجل الذي ربما يكون قاتل فاروق في الستينيات ،تسلم في الأربعينات جائزة من فاروق باعتباره ماهرا في استخدام السلاح. وربما كان أحرى بنا ألانصفه بالقاتل ،فهو منفذ لحكم بالإعدام أصدرته ضد فاروق سلطة كان لها من الشرعية ما لم يتحقق لحكومة قبلها منذ عهد الفرعون نختنبو الثاني ،آخر حاكم مصري لمصر ،قبل ألفي سنة. فهل كان فاروق مصريا؟ كان جده لأمه «الرقيب السابق في الجيش الفرنسي ،الذي ترقى ليصبح الكولونيل أوكتاف جوزيف آنسيليم سيف الشهير»كما جاء في موسوعة مصر تحت حكم أسرة مهمت (محمد) علي ،التي وضعها الكندي باتريك ريتشارد كارستينز. وجده لأبيه اسماعيل باشا – كما قال إلياس الأيوبي في كتابه «تاريخ الخديوي اسماعيل باشا» – هو من قلب القطار بأخيه في كفر الزيات ليفوز هو بالعرش بمباركة من الفاتيكان ومن امبراطور فرنسا الكاثوليكية. وجده الأكبر تاجر التبغ المقدوني المغامر محمد علي باشا ظلت بريطانيا تعاديه وتعادي أبناءه ،وتعادينا معهم ،بسبب صداقتهم لفرنسا. رغم ذلك فقد أصبح فاروق وأسرته جزءا مهما من التاريخ المصري. لكن ثورة 1919 كانت تقول بلسان زعيمها سعد باشا زغلول (تاريخ مصر الليبرالية ،تأليف عفاف لطفي السيد)إنها تريد تخليص مصر من الأتراك. كلام زعيم الأمة ،الذي قصد به أساسا منافسه العظيم والمتوازن ،عدلي باشا يكن ،يخلو من التسامح المصري الذي استوعب الغرباء ومصّرهم ،لكن الفشل السياسي الذي تخبط فيه فاروق والطبقة السياسية التي استغلت العداء بين القصر والوفد ،والديماغوغية التي روج لها من استعان بهم القصر من السياسيين أمثال حسن البنا وأحمد حسنين والصحفيين أمثال كريم ثابت ومصطفى أمين وغيرهم ،ألقت بمصر في منافسات ومزايدات ظاهرها ديني ووطني وحقيقتها صراع على المال والنفوذ. وعلى مشارف العصر الجديد ،بعد الحرب العالمية الثانية ،أفلس الجميع ،وأولهم بريطانيا ،وأصبح من الضروري التخلص من القديم. القديم الذي شاخ وباخ وتحتم أن يسقط لم يكن شخص فاروق فقط. نعم السلطة في مصر شخصية لا مؤسسية ،قبل فاروق وبعده. وهذا ما نحاول تغييره منذ العام 2011 ،ولكن شخص فاروق وسلوكياته الشخصية والسياسية كانت لها علاقة قوية بمصيره المأسوي. وما نود قوله هنا هو أن تعامله مع الوفد من ناحية ،ومع البريطانيين من ناحية أخرى ،على أساس شخصي بحت ،دفع به لمسارات خاطئة وفوّت على مصر فرصة تاريخية نادرة : فرصة الدخول المؤسسي المطمئن لما يسميه المؤرخ اليهودي السكندري المولد إيريك هوبزبوم «الحقبة الذهبية»في القرن العشرين ،وهي الحقبة التي بدأت في 1947وانتهت في 1973. دخلنا هذه الحقبة ،أولا ،في أجواء ثورة ،ولو دخلناها في أجواء نظام مستقر ومتفاهم مع العالم فلربما كان مكسبنا منها أكبر وخسائرنا أقل. وثانيا، دخلناها متأخرين ،مع جمال عبد الناصر وبفضل جسارته ،وخرجنا منها مبكرين ،قبل العالم كله بتسع سنوات ،مع جمال عبد الناصر عندما زادت جسارته (ومثاليته)عن الحد ،فتورطنا ،نحن جنوده المخلصين وأغلبية شعب مصر، في معارك في الداخل والخارج انتهت بسقوط الناصرية كمنهج سياسي ،في الفترة بين 1964و1971. لن نقارن بين ناصر وفاروق ولا بين عهديهما ،نحن فقط نريد أن نفهم ماجرى لنتلافى أخطاء الماضي ونحن نتطلع للمستقبل. ولابد أن نوضح ماهي «الحقبة الذهبية» التي لم ينتبه إليها فاروق ،والتي دخلنا وخرجنا منها مع عبد الناصر وبسببه في الحالين. يحدد هوبزبوم بداية الحقبة ونهايتها كما أوضحنا. وهذه الحقبة هي التي ساد فيها مفهوم «دولة الرفاه» ،الدولة التي ترعى مواطنيها اجتماعيا واقتصاديا ،وهو مفهوم ربما عرفته أوروبا منذ القرن التاسع عشر ،وطبقه في أمريكا الرئيس روزفلت في ثلاثينات القرن العشرين ،وقد ظللت لسنوات طويلة أعتبرتجربة روزفلت النموذج الذي استلهمه عبد الناصر ،لكني أميل اليوم للقول بأن اشتراكية عبد الناصر استلهمت نماذج عدة بينها «اشتراكية» آيزنهاور. لم تكن التجربة السوفيتية ،كما يقول هوبزبوم ،آخر عمالقة الماركسية في أوروبا ،أكثر من نظام ريفي الروح وارتجالي ، تولّد عن فوضى انهيار البورجوازية الأوروبية ،في الفترة التي سبقت الثورة البلشفية في 1917. ولم يكن خطرهذا النظام نابعا من قوته بل من ضعف النظام الرأسمالي الذي واجه التحدي بتأسيس دولة الرفاه ،لتخليق كيانات سياسية متماسكة ،قلاع يتكاتف فيها الحاكم والمحكوم لمقاومة كل خطر خارجي. فعندما ترعى الدولة مواطنيها وتمنحهم فرصة العمل والعيش الآمن الكريم ،والرعاية التعليمية والصحية ،تصبح مقاومة خطر مثل الخطر الشيوعي على الغرب آنذاك (أو الخطر الإخواني اليوم عندنا )أمرا ميسورا. وعندما حدث الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن العشرين ،وكان أشد بكثير من الكساد الذي يكابده العالم اليوم منذ 2008 توهم الناس في الشرق والغرب أن المنظومة السوفيتية المسيطرة على ثلث سكان الأرض سوف تسبق العالم الغربي على طريق التقدم الاقتصادي(وظللت أنا في هذا الوهم حتى قبل سقوط الدولة السوفيتية بسنوات قليلة).وهكذا شمر الغرب عن سواعد الجد ،وحشد روزفلت حوله العمال والفلاحين قبل غيرهم ،فتحقق الرخاء الذي جعل دولة الرفاه ممكنة ،منذ العام 1947. لكن لولا التحدي السوفيتي لاستأثرت الشرائح العليا في المجتمع الرأسمالي بكل شئ ،ولما استفادت الطبقات الشعبية بما استفادت به لثلاثة عقود ،انتهت بالأزمة الاقتصادية في السبعينات ،وهي الأزمة التي استغلها أنور السادات ،عندما جعل الحظر النفطي ،بمساندة من الملك فيصل وإخوانه قادة الخليج ،جزءا من عملية تحرير سيناء ،فانتهى الكساد عالميا ،وكسب كل من تعاطف معنا تريليونات الدولارات. وكسبنا نحن مساعدات مالية لم تنقطع (كيف لم ننتقل من طلب المساعدة لتحقيق فوائض تغنينا عنها؟ تلك قصة أخرى) ،ومستثمرين تدفقوا علينا ،وفرص عمل لأبنائنا في الخارج الذين تساوي تحويلاتهم لمصر أضعاف دخلنا من قناة السويس أو من أي مصدر آخر. وأهم من كل ذلك كسبنا مكانة إقليمية ودولية ننعم بها إلى اليوم. لم ندخل «الحقبة الذهبية» إلا بعد ثورة أطاحت فاروق الذي كان مشغولا بمحاربة الوفد ،رغم أن الوفد كان أيامها روح الأمة المصرية وعقلها. وحارب الوفد بمن؟ بالإخوان المسلمين وأحزاب الأقلية ،فساعد بذلك على تجذّر ثقافة سياسية مريضة (بدأت قبله بعقود)تكره الأجانب كراهية عصابية وتتعامل مع العالم بعقد الماضي وليس وفق فرص يتيحها الحاضر لرخاء واستقرار في المستقبل. وعندما جاءت ثورة يوليو لتحقق ما طالبت به ثورة 1919ومن قبلها ثورة عرابي بأن تكون مصر للمصريين ،فعلنا ذلك ونحن تحت تأثير الثقافة الاستبدادية المريضة التي تفاقمت في الأربعينات ،مع إفساد الملك للحياة السياسية وعجزه عن البقاء في حدود دوره ،كملك يملك ولا يحكم. بعد هذا كله يأتي من يتحدث باسم أحمد فؤاد الثاني ليحدثنا عن قواعد مخاطبة الملوك؟ عن أي ملوك يتحدث؟ عندما ولد فاروق لم يجرؤ فؤاد على أن يعلنه وليا للعهد إلا بعد أن تقدم بطلب للسفير البريطاني الذي جاءه بموافقة من وكيل الخارجية البريطانية (انظر مذكرات النحاس باشا تحقيق أحمد عز الدين) : ملك بموافقة من وكيل وزارة ؟ هذا الهوان من جهة ،وأمراض العقل العام من جهة أخرى ،انتهيا بالبحث عن الكرامة إلى أن أصبح غلافا براقا يغطي على الاستبداد الرئاسي الذي تسبب بهزيمة داخلية لشعب جعلته الديكتاتورية غريبا في وطنه ،وتحديا للنظام الدولي كانت نتيجته هزيمة خارجية في 1967. لم يقل المذيع لضيفه الملكي شيئا من هذا ،فجاز لنا أن نتساءل:لماذا أحمد فؤاد الثاني؟ هل هناك من يفكر اليوم بحزب ملكي في مصر؟