لم يعترف العرب بأن عددا من بنوكهم ومؤسساتهم المالية والاقتصادية أصبح مسرحاً لارتكاب «الجريمة البيضاء» الا بعد أن اكتووا بنار تلك الجريمة التى استفاد منها الإرهابيون فى تمويل تنظيماتهم وحركاتهم وجماعاتهم المتطرفة فى تنفيذ أعمالهم ومخططاتهم الإرهابية، إلا أنهم (أى العرب) انتقلوا اخيرا من مرحلة نفى وإنكار وقوع «الجريمة البيضاء» على ارضهم إلى مرحلة الاعتراف بوجودها ولكن بدرجات متفاوتة من دولة الى أخرى، وبدأوا بالفعل فى التصدى الجماعى لها، لمنع تأثيراتها السلبية فى تكريس الإرهاب والفساد والإخلال بالأمن الاقتصادى والاجتماعى والسياسى العربى. والمقصود بالجريمة البيضاء هو جريمة تبييض وغسل الأموال السوداء القذرة الناتجة عن الأنشطة غير المشروعة التى يعاقب عليها القانون ومنها: تمويل شبكات الإرهاب وتجارة المخدرات وتهريب الأموال العامة للخارج والتجسس والاتجار فى البشر والسلع الفاسدة والتربح من الوظائف العامة والتهرب من الضرائب والتزوير وصفقات وعمولات السلاح والخصخصة والمضاربة غير المشروعة فى الأوراق المالية، حيث يتم غسل تلك الأموال بإيداعها فى حسابات وهمية وبسرية كاملة وإدخالها فى دائرة معقدة من التحويلات بالبنوك وفروعها المختلفة لتضليل العدالة، فيختفى معها مصدرها الأصلى وتنقطع الصلة بينها والأنشطة المجرمة قانوناً، لتصبح بعد ذلك أموالا مشروعة يصعب على السلطات اثبات عدم مشروعيتها. ومع انتشار وسائل الاتصالات الرقمية والعمليات المصرفية الالكترونية تعقدت عمليات الجريمة البيضاء وأصبحت تتم عبر الانترنت والهاتف المحمول مما صعب مراحلها واكتشافها، وغالباً ماتتستر تلك العمليات وراء أسماء كبيرة لشركات أو مستثمرين أو رجال اعمال أو ساسة أو مشاهير أكثر التصاقاً بالقيادات العليا، لديهم الخبرة والقدرة والمراوغة والالتفاف على القوانين. وإذا كنا فى السابق عندما نسأل بعض المسئولين الاقتصاديين العرب: ماذا عن غسيل العرب لأموالهم، كانوا يهربون ويفرون من الإجابة فرار السليم من الأجرب، إلا أن العرب بعد أن بلغ حجم عمليات غسل الأموال فى دولهم 300 مليار دولار سنوياً من إجمالى 5 تريليونات دولار عالمياً، بدأوا بالفعل فى مواجهة تلك الجريمة وتأثيراتها السلبية وتمويلها للإرهاب فى الوطن العربى، بأن عقدت الجامعة العربية الاتفاقية العربية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التى سارعت الدول العربية الى الانضمام إليها، كما انشأت تلك الدول أجهزة وطنية لمكافحة تلك الجريمة وعدلت من قوانينها وتشريعاتها بعد أن انضمت إلى الاتفاقات الدولية الصادرة فى هذا الشأن ثم شكلت آلية عربية مشتركة تضم المرجعيات المالية والمصرفية بهدف تنسيق المواجهة والمكافحة الجماعية لتلك الجريمة وقد أصبح من الضرورى حاليا ًتأسيس مركز عربى لتسوية المدفوعات بين الدول العربية لمنع تسرب أموال قذرة وملوثة الى بنوكها ومؤسساتها المالية وكشفها قبل أن تتحول إلى أموال نظيفة بارتكاب «الجريمة البيضاء» لتمويل الإرهاب فى هذه الظروف العالية المخاطر التى يعيشها العرب. لمزيد من مقالات فرحات حسام الدين