إذا كان التجديد هو خاصَّةٌ لازمةٌ من لوازم دِينِ الإسلامِ، نبَّه عليها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: (إنَّ الله يَبعَثُ لهذه الأُمَّةِ على رأس كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يُجدِّدُ لها دِينَها)، فهل يوجد تعارض بين علاقة العقل بالنقل، وهل هي بحاجة إلى نظرة جديدة ؟ وهل يتعارض تراثنا الفقهي القديم مع الرغبة في تجديد الفكر الإسلامي، فنبدد مذاهبنا الفقهية ونؤسس لمناهج جديدة؟ وإذا كان التجديد الرشيدَ هو ما يَتآخَى فيه العقلُ والنقلُ، ويتفاعل مع المُتطلَّبات المجتمعيَّةِ والدوليَّةِ، فهل يعني التجديدَ الإلغاءَ أو التبديلَ أو التبديدَ، والمساسَ بالثوابتِ والمُسلَّمات، وإهدار ما بذَلَه المجتهدون عبرَ القُرون، والذي يُمثِّلُ ثروةً فكريَّةً معرفيَّةً لا يمكن تَجاهُلها؟ وهل يوجد بيننا الآن من يصلح للقيام بهذه المهمة الجليلة وهي مهمة تنقية التراث؟ علماء الأزهر يؤكدون أن الفقه الإسلامي قابل للتجديد، ويطالبون بضرورة تنقية الكتب الفِقهيَّة من الآراء التي يَظهَرُ فيها الغلوُّ، وعدم الجمود على ما يراه بعض الفقهاء القُدامَى من آراء لا تتَّفق ومُعطَيات العلم الآن، وخاصَّةً إذا لم يَكُنْ في المسألة نصٌّ من القُرآن أو السنة. بينما يرى مفكرون أن التجديد ليس إعادة طلاء لمادة قديمة أو ترميم عالم متهدم، وأن الفكر ليس حكرا على المؤسسات الدينية. يقول الدكتور محمد رأفت عثمان، عضو هيئة كبار العلماء، إن إحدى الصِّفات الملازِمةِ للفقه الإسلامي أنَّه قابلٌ للتجديد دائمًا في كُلِّ العصور، وذلك إنَّما يَرجِعُ إلى أنَّ حقيقة علمِ الفقه هي، الأحكام الشرعيَّة العَمَليَّة التي يَستنبطُها المجتهِدون من الأدلَّة الشرعيَّة التفصيليَّة. وأضاف: إننا مُحتاجون دائمًا إلى التجديد في الفقه الإسلامي، ومن المعروف والمشهور أنَّه قد حصل التجديد من إمامٍ كبيرٍ في الفقه الإسلامي هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فقد كانت له آراء في قَضايا كثيرةٍ وهو في بغدادَ، وعندما استَقرَّ في مصر تَغيَّر اجتهادُه في كثيرٍ منها، فأصبح الشافعيَّةُ يُطلِقون على ما أبداهُ الشافعيُّ من أحكامٍ فقهيَّة قبلَ أن يَدخُل مصر «القول القديم»، وما أبداه من أحكامٍ فقهيَّةٍ بعد دُخولِه مصرَ «القول الجديد»، وأصبحت الفَتوى في مذهب الشافعيِّ هي ما أبداهُ في مَذهَبِه الجديدِ، إلَّا في بعضِ مسائلَ تَكلَّم عنها فُقَهاء الشافعيَّةِ. ودعا العلماء إلى بيان أحكام الشرع فيما يَطرَحُه الإرهابيُّون والمتطرِّفون من آراء يَدَّعون أنَّها من الشريعةِ، وهي في الحقيقةِ شُذوذٌ عن أحكام الشرعِ ومُنافاةٌ صارخةٌ لتَسامُحها، وتنقية الكتب الفِقهيَّة من الآراء التي يَظهَرُ فيها الغلوُّ، ويكون ذلك تحتَ اسم مُلخَّص كتاب كذا أو تيسير كتاب كذا. كما أكد ضرورة عرض الأحكام الشرعيَّة فيما يَتناوَلُه العُلَماء منُ القضايا بالأسلوبِ الخالي من الصُّعوبة على فَهمِ المعاصِرين، وعدم الجمود على ما يراه بعض الفقهاء القُدامَى من آراء لا تتَّفق ومُعطَيات العلم الآن، وخاصَّةً إذا لم يَكُنْ في المسألة نصٌّ من القُرآن أو السنة. فقه الواقع من جانبه يقول الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، إن الأمة بحاجة إلى مشروع للتجديد يستند إلى الواقع، وقد بدأت ملامح هذا المشروع في القرن الحادي عشر، على يد عبدالقادر البغدادي، الذي كان يرى أن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، فكان مشروعه قائمًا على اللغة العربية، ثم رأى المفكرون بعد ذلك أن اللغة وحدها لا تكفي، بل لابد من تدريب العقل على التوثيق، لأن الكتاب والسنة وهما محور الإسلام، قائمان على الكتاب والسنة، ثم جاء حسن العطار ليتحدث عن قضية العدالة الناجزة وقضية عمارة الأرض. وأضاف الدكتور علي جمعة أننا إذا أردنا مشروعًا جديدًا يجب أن ندرك الواقع ثم نحدد ما هو المأمول، كما يجب تحرير معنى الإجماع، والاهتمام بالعلوم، ومراعاة اللغة والمصطلحات والدلالات المختلفة، وإدراك أن الخطاب الديني هو جزء من كل، مؤكدًا أننا نحتاج إلى برامج في التربية والتعليم والقضاء، وفي كل المجالات. ويرى الدكتور محمد كمال إمام، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، أن التجديد في المفهوم الإسلامي يجب أن ينطلق من ثابتين أولهما: أن الإسلام عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، فمن زعم أن الدين علاقة روحية بين العبد وربه لا صلة له بشئون الناس، فقد فصل المعاملات عن الدين، والثابت الثاني: أن التجديد لا يعني عزل النصوص عن ولايتها الشرعية، ولا تنصيب العقل وصيًا عليها، له حرية القبول والرفض، فالعقل لن يسترد هيبته بالاجتراء على النص، بل يستردها باستعادة مهامه في الفهم الصائب. رأي مخالف ويقول الدكتور على مبروك، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، إنه ينبغي أن يدرك الأزهر أن مسألة الفكر الديني ليست حكرا عليه، وعليه أن ينفتح على كل مؤسسات الدولة الأخرى سواء كانت وزارة الثقافة أو مراكز الأبحاث أو الجامعات المدنية أو مكتبة الإسكندرية.. فالتجديد ليس إعادة طلاء لمادة قديمة أو ترميم عالم متهدم، وإنما التجديد عمل معرفي نحتاج فيه إلى أن نتسلح بمفردات إنتاج المعرفة التي يوفرها العصر من مناهج ومفاهيم وإجراءات معرفية.. إلخ ولابد أن نقر بأن مقتضياته ومتطلباته ليست متوافرة بالشكل الذى ينبغى لغالبية شيوخ الأزهر وباحثيه؛ ولذا لابد من الاستفادة بهؤلاء والإنصات إليهم والاستفادة من دراساتهم. ويترتب على هذا الانفتاح خطوة مهة ألا وهى ضبط المفاهيم التى يتناولها المهتمون بالتجديد.. فماذا نعنى بالخطاب؟ وماذا نعنى بالتجديد؟ وماذا نعنى بالدينى؟ فهى مفاهيم غير منضبطة وغير محددة المعالم بالنسبة لمن يستخدمونها، فعلينا أن نضبط هذه المفاهيم ونتفق على حمولتها المعرفية أولا، وأن نعين ما نوع القيم التي نريد أن نربى العقل عليها، وما المبادئ الكبرى التى نريد أن نبنى حولها خطابات جديدة نقدمها للناس. وأضاف: أنه لابد من تدريس النصوص المؤسسة « الموطأ- الرسالة- الخراج- مسند أحمد بن حنبل- ابن القيم» فهي أجدى ألف مرة من ارتكانك إلى كتب ألفت فى الفترة المملوكية والعثمانية يتم تدريسها وتشتمل على الشاذ والغريب ولا نجد ذلك عند المؤسسين الكبار، لأنهم كانوا يضعون قواعد راقية للتفكير. فإننا نربأ بالمؤسسة أن تلجأ إلى المؤلفات المتأخرة بكل ما تفيض به من شذوذ وغرائب، حينئذ أظن أننا سننتج شيئا. ونحن لا نشكك فى نياتهم لكن هذا الموضوع لن يحل بالنيات الطيبة وإنما أن تمتلك الإمكانات التي تؤهلك لإنجازه، فالطبيعة لا تعرف الفراغ، فإذا لم تقم بإنجاز ما هو مطلوب منك بامتلاك الأدوات التي تؤهلك لإنجازه فسيأتي غيرك ممن يكون مسلحا بهذه الأدوات، وبالتالي يكون مؤهلا أكثر لإنجاز المهمة التي عجزت أنت عن أدائها. ومن الغريب أن هذا الحادث ليس الأول مع المؤسسة فيروى الإمام محمد عبده أن الخديو إسماعيل طلب من شيخ الأزهر وعلمائه أن يتصدوا لتجديد الفقه بما يساير العصر، ووسط رفاعة الطهطاوي وقال له أنت رجل منهم، وهم يمكن أن يسمعوا كلامك، فقل لهم إنهم إذا لم يقوموا بالإصلاح الواجب فإنه سيكون مضطرا لتطبيق شريعة نابليون .. ورفض شيوخ الأزهر فأنشأ الخديو المحاكم الأهلية، فقامت المحاكم الأهلية بجوار المحاكم الشرعية، والمضحك أن شيوخ الأزهر كانوا يتحاكمون إلى المحاكم الأهلية ولا يتحاكمون إلى المحاكم الشرعية.. إن تقاعس علماء الأزهر هو الذي أدى إلى سقوط حكم الشريعة، وهذا عكس السائد أن دعاة الحداثة هم الذين أسقطوا حكم الشريعة. ودعوة الخديو في القرن التاسع عشر كانت تطالب بإصلاح الفقه فحسب، أما دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي فتطالب بإصلاح العقل، فالمهمة اليوم أعتى والتحدي أكبر، ولن يكون علماء الأزهر وشيوخه قادرين مثلما أخفقوا من قبل، ولا بد أن تنضم إليهم جهود غيرهم ويشركوا من هم أكثر قدرة وتضلعا فى مسألة تجديد الخطاب الديني، فالمراوغة لن تجدي، فهناك مشكلة حقيقية ومصر بحاجة للتصدي لهذه المشكلة، فترميم القديم غير كاف، والشباب يسألون أسئلة جدية ويدركون أننا فى لحظة فارقة وأن نتعامل بشكل إيجابي لكي نحافظ على وجودها وتأثيرها في عالم متغير. ضرورة ومشكلة وفي سياق متصل يقول الدكتور يحيى أبو المعاطي العباسي، أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة، إن أي أمة عندها تراث كبير ممتد يكون التعامل معه لاستمرار هويتها ضرورة ومشكلة في الوقت نفسه، ولا يوجد على وجه الأرض تراث يحتل الفترة الزمنية كالتراث الإسلامي العربي الذي يمتد لنحو ألفى عام، ووضح من خلال رصد الواقع أن هناك مشكلة في تعامل المعاصرين مع هذا التراث الضخم، والحل أو جزء من الحل هو التعامل مع التراث حسب المتلقي وما يحتاجه، وهذا التعامل مع التراث ليس جديدا بل هو من أساليب التعامل مع الإنتاج الفكري الإسلامي طيلة تاريخه، كما أن كثيرا من الأمم ذات التاريخ الفكري والثقافي الممتد تعاملت بنفس الطرق أو طرق مشابهة، وهذه المستويات من التعامل هي: اختصار كتب التراث المتفق على قيمتها بين المتخصصين، وهذا الاختصار هو جزء من التكوين الفكري والثقافي الممتد في الأجيال المعاصرة، فهو ليس ترفا فكريا بل هو ضرورة حياتية لأمة يكون لها ملامح مميزة ومميزة بين الأمم. وقادرة على صناعة أجيال متخصصة في التحقيق بل في ميدانه وهو أعلم بحدود علمه وكيفية الاستفادة من هذا التراث الفكري بنقده وتنقيته واختيار ما يمكن أن يستمر وأن يرد ما يمكن أن يوجد من شبهات أو قضايا تحتاج إلى توضيح للمتلقي.