يوحي المشهد الإعلامي في كثير من الفضائيات وبرامج «التوك شو» التي تنادي بالثورة على التراث الإسلامي وسير الصحابة والخلفاء الراشدين من هجوم غير المتخصصين في العلوم الشرعية والمذاهب الفقهية والمناهج الدينية التي تدرس بالأزهر تحت دعوى أنها تخرج الإرهابيين، وأن مناهج الأزهر هي المسئولة عن شيوع الفكر التكفيري، على الرغم من أن تلك المناهج وكتب التراث تدرس بالأزهر الشريف منذ أكثر من ألف عام بينما لا يزيد عمر تنظيم «داعش» عن أربع سنوات؟ونحن بدورنا نتساءل: هل المطالبة بتنقية التراث وتعديل المناهج تصحيح مسار أم مؤامرة على الإسلام؟! وهل يعد هذا الهجوم إضعافا لدور الأزهر ومحاولة لشغله بالخوض في حروب كلامية عن دوره الأساسي ورسالته، وإلهائه عن قضايا الأمة وما يحدق بها من أخطار.نحن بدورنا نعلم أن الحمل جد ثقيل ينوء به الأزهر الذي عانى لعقود طويلة من التهميش وضعف الميزانية وتوجيه مسار الأوقاف المخصصة للإنفاق على طلابه, ونحاول أن نمد له يد العون فندلى بدلونا في رسم خارطة الطريق للخطاب الديني الذي أصابه ما أصاب واقعنا المعيش. وتباينت ردود العلماء فمنهم من يرى أن محاولة تنقية التراث دعوة ضالة ومغرضة تستهدف النيل من الإسلام. وآخرون يرون أن دعوات التجديد والمسايرة للعصر دعوات قديمة ومعاصرة ومستمرة إلى أن تساير الأمة مستحدثات العصر وتنقى وتفهم تراثها بشكل علمى لا يصادر ولا يصادم قواعد وأسس فهم التراث, فليس كل ناقد حاقدا أو متآمرا أو كارها. يقول الدكتور محمد رأفت عثمان الأستاذ بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وعضو هيئة كبار العلماء، من الملاحظ أنه يوجد اتجاهان الآن في تناول قضية تنقية التراث الإسلامي، أحد هذين الاتجاهين، تأخذ أصحابه الغيرة على التراث فيريدون إبعاد كل ما يمس غناه وعطاءه وينادون بإبعاد بعض الصور التي تخالف معطيات العلم الآن عن هذا التراث. أما الاتجاه الثاني فيريد أصحابه اتخاذ ذلك ذريعة للتهجم على التراث الإسلامي ووصفه بما ليس فيه، فيلتقطون بعض الصور الفقهية التي أبدى بعض الفقهاء فيها رأيا يتفق وما توصل إليه من معارف عصره، ويهاجمون الفقه الإسلامي كله، كمسألة أكثر مدة الحمل التي يراها بعض الفقهاء أربع سنوات، ولا يلتفتون إلى أن الفقيه الذي قال بهذا الرأي لم تكن معارف عصره الطبية تفيده في هذا، وإنما كان اعتماده على الرجوع إلى السيدات، بسؤالهن عن أقصى مدة حملن فيها، ولم يكن في هذا الوقت قد عرف بما يسمى الحمل الوهمي، التي تتصور فيه السيدة أنها حامل مدة طويلة، فهذه وما يماثلها من أحكام اجتهادية اعتمد فيها الفقيه على معلومات عصره، ولايصح أن يتصيدها البعض بالإساءة إلى الفقه أو التراث الإسلامي كله، هذا التراث الذي يعد مفخرة للأمة الإسلامية، والفقه الإسلامي الذي يهاجمه البعض هو أشبه بجبال من الذهب، لا ننكر أن فيها بعض الحصى، فيكون من الهوس والعفن الفكري أن يترك هذا الغنى والثراء بالعطاء الفكري لمجرد وجود بعض صور لم يحالف بعض الفقهاء الصواب فيها، في حين أننا نجد فقيها آخر قال بالصواب في نفس هذه المسألة. وأشار رأفت عثمان إلى أن هذا التراث قيمة كبيرة ، لا يعرف قيمته إلا من يعيش في رياضه ويستمتع استمتاعا فكريا، بما تركه لنا هؤلاء العظام، وهو مفخرة في الفكر الإنساني كله, ويجب على الجميع احترامه لأنهم لم يدركوا ولم يستوعبوا قيمته حتى الآن، أما الذين يسيئون إلى البخاري وغيره من علماء السُنة فلايدركون أن هؤلاء العلماء إنما بذلوا جهودا علمية لايتصورها الناس الآن في التثبت من أحاديث النبي، صلى الله عليه وسلم. هجمة شرسة على الإسلام ويوضح الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن المقصود بتنقية التراث هو أن يتم محو الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي بينت الكثير من الأحكام الإسلامية، وليس المقصود هو الفقه، لأن الفقه متغير حسب الأحوال والزمان، ولكن يريدون أن يمحوا الكثير من أحاديث صحيح البخاري، الذي قاموا بالطعن فيه، حتى يقولوا إن السُنة كلها منقولة نقل خطأ، برغم أن التشريعات الإسلامية جاءت من السُنة النبوية، لأن القرآن جاء بتشريعات محدودة، فهذا مكر يريدون به إلغاء كل ما لم يأت به القرآن، وحينما يعلن عن تنقية التراث الإسلامي فالمقصود هنا طرح الغث واستبقاء غيره، وليس في هذا التراث ما يطلق عليه (غث)، وذلك لأن هذا التراث هو الذي تربى عليه أبناء هذه الأمة باعتبار أن كل العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي، بل وغير العالم الإسلامي تربوا على هذا التراث، وتم تدوينه في عصور سادت فيها أعراف وقضايا معينة، هذه القضايا وهذه الأعراف تبدلت في زماننا, وأصبح الحال يقتضي ليس التخلص من هذا التراث وإنما تجديد محتواه ليواكب هذا الزمان فالإمام الشافعي ألف مذهبا كاملا في العراق, فلما جاء إلى مصر تخلص من هذا المذهب ودون مذهبا جديدا يناسب عرف المجتمع المصري، ولهذا فإن الدعوة إلى تنقية التراث هي هجمة شرسة على الإسلام وثوابته ، والتسليم لهم بهذه الدعوة هو تسليم لهدم الإسلام ونقض لبناته لبنة لبنة، ولا يقوم عاقل بالتخلص من هذا التراث باستبقاء بعضه وحذف الباقي، وإنما هذا التراث يحتاج إلى صياغة عصرية لمحتواه ليواكب مقتضيات العصر وحتى لا يعيش الناس في واقع لم يعد له وجود إذا استمروا في قراءة هذا التراث الذي لم يعد لكثير من محتواه وجود في واقع الناس، هذا التراث يدرس في دول الغرب التي لا تدين بالإسلام، ويدرس في الشرق والغرب، وهو الذي أنشأ أعظم حضارة في التاريخ وهو الذي كون هذه الثروة العظيمة لهذه الأمة التي أبهرت المستشرقين بهذا التراث لدرجة أنهم عكفوا عليه يدرسونه ويفهرسون فيه بالرغم من أنهم لا يدينون بالإسلام.
دعوة ضالة ويصف الدكتور إدريس هذه الدعوة بأنها ضالة، ولا عجب أن الذي دون تاريخ العرب غير مسلم، وهو (بروكلمان) والذي فهرس الكتب التسعة من كتب السنة غير مسلم، وربما كانت أول فهرسة للسنة النبوية في القرن الماضي، والذي سبق، والذي صنع هذه الفهرسة وفرغ كتب السنة ليكون هذه الفهرسة رجل غير مسلم، أفيعقل بعد هذا أن يتنكر المسلمون لتراثهم ويتخلصون منه؟! أو يعملون فيه عقلهم فيستبقون منه ما يوافق أهواءهم ويستبعدون منه ما لا يناسب هذه الأهواء، إن الركون لهذه الدعوات الضالة يفضي إلى هدم تواجد الدين من نفوس الناس، ويسقط هيبة هذا الدين من قلوبهم ويجعل الضالين هم الذين لهم المرجعية فيما يتعلق بالدين، وهذا لا يمكن أن يتصوره إنسان، ولا يسلم به عاقل لأن من المسلمين من جند نفسه وشهر سلاحه لمحاربة كل من يريد النيل من هذا الدين المتمثل في ثوابته وربما كان في مقدمة هؤلاء الذين أشهروا سيوفهم للدفاع عن ذلك هم علماء الأزهر.
ضرورة التجديد فى حين يرى الدكتور يحيى أبو المعاطى العباسى، أستاذ التاريخ والفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، أن دعوات التجديد والمسايرة للعصر دعوات قديمة ومعاصرة ومستمرة إلى أن تساير الأمة مستحدثات العصر, وأن تنقى وتفهم تراثها بشكل علمى لا يصادر ولا يصادم قواعد وأسس فهم التراث, وعندنا فى ذلك مئات الكتب وعشرات المؤتمرات كلها تثبت هذه الدعوة ولا تنفيها, وبعض أسباب هذا التأخر فى التجديد مادى وبعضها علمى فى أن مفهوم فرق العمل العلمية مازال غير موجود عندنا, فالمشاريع العلمية فى العالم الإسلامي فى معظمها مشاريع فردية, وهذا شىء تجاوزه الزمن, فالسمة العلمية المعاصرة هى فرق العمل الممتدة والمتراكمة, وأضرب مثالا على ذلك بموسوعة الشيخ زايد للمقاصد, والتى بلغت عشرات المجلدات لعلماء من معظم أقطار العالم الإسلامي جمعوا فيها بشكل علمى وبإخراج معاصر المقاصد بأنواعها, وهذا نموذج لا أعرف له تكرارا, لكنه يكشف عن فائدة العمل الجماعى, بل حتى الأقسام العلمية فى جامعاتنا لا تعرف ذلك, حتى المؤتمرات التى يمكن أن تكون مجالا لفرق العمل لا يحدث فيها ذلك, فنجد الأبحاث بعضها يكثر في مجال وبعضها ينعدم فى مجال آخر فى مجال البحث رغم وجود المحاور مسبقا, وهذا كله يثبت أن هناك أزمة علمية فكرية فى مجال الفكر الإسلامي, لا يختلف على ذلك اثنان, والطرق إلى إصلاح هذا الخلل عديدة فيها عشرات المؤتمرات والبحوث, فبدلا من أن ندور فى هذا الفلك يمكن تجميع التوصيات لهذه المؤتمرات واللقاءات العلمية والاتفاق على التعامل مع الفكر الإسلامي قديما وحديثا, والنواقص البحثية وتصحيح الأفكار, لأن هذا التراث فيه الشىء الحسن وفيه ما تجاوزه الزمن, لكن كل ذلك يأتى بالدراسة المتأنية الواعية الممنهجة وفيه جهد كثير, لكن للأسف لا يعلمه ولا يصبر على علمه إلا أولو العزم من الطلاب والباحثين. وقد عمل كثير من كبار العلماء على مجال التعامل مع التراث وانتقاء معالمه كالشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر والشيخ حامد الفقى والشيخ محيى الدين عبدالحميد وعبدالسلام هارون ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعشرات غيرهم, لكن انقطع منهج كثير منهم. ولا يشك إنسان أن المشتغلين فى مجال الفكر الإسلامي معظمهم أصحاب نيات حسنة وغيرتهم على الدين لا يمكن الشك فيها ولا الاقتراب منها, وهذه من المفاهيم أيضا التي ينبغى أن نعمل على تصحيحها, فليس كل ناقد حاقدا أو متآمرا أو كارها, هذا كلام يحتاج إلى مراجعة, بل إن من دعوات التجديد التى يدعى إليها هى فكرة تجميع الناس لا اختلافهم. وفي سياق متصل يرى الدكتور على مبروك، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، أن الأزمة لا تكمن في المناهج بل في الخطاب الديني الذي يعتوره العوار, فعندما نتحدث بالخطاب الفقهى لا أعنى الآراء التى وردت فى المذاهب الأربعة, بل أعنى المبادئ والأفكار والقواعد المعرفية الكلية التي تضبط هذه الأقوال . فالخطاب هو جملة المبادئ المعرفية التى تنشأ فى حقل معرفى ما، قد لا تكون مكتوبة أو منطوقة، فإذا كانت قاعدة التمييز في الفقه هى الحاكمة للخطاب الفقهي, فكيف نستدعى الخطاب الفقهى من أجل دولة حديثة يحضر المرء فيها بصفته مواطنا، فالناس سواسية أمام الدولة, فهل يا ترى تستطيع المذاهب تغيير القاعدة الفقهية القائمة على فكرة التمييز إلى قاعدة فقهية جديدة قائمة على فكرة المواطنة. والأزهر يقوم بمهمة ونحن نساعده على إنجازها, وهى مهمة لمصر وليست للأزهر وللعالم العربي والإسلامي بل للإنسانية جمعاء. والتجديد مرتبط بالتجديد في علاقة جديدة مع القرآن والسنة النبوية والنصوص المقدسة. والأوضاع لا تحتمل التأخير وليس بمقدور أحد المناورة والالتفاف, فالأمر أكبر من التهدئة بل إلى فريق عمل, فلابد أن يتواضع الأزهر ويدرك أن عليه التعاون مع العاملين والباحثين في الجامعات المدنية.