من هو العقل المدبر وراء ظهور تنظيم داعش الإرهابي؟ سيظل هذا السؤال مجالا لإجابات كثيرة، تتركز أغلبها حول الحقائق المعروفة، بوصفه تنظيما دعمته ومولته المخابرات الغربية، وأنه خرج من رحم تنظيم القاعدة، ليتحول إلى "بعبع" يثير رهبة الغرب قبل الشرق. وهذا الطرح هو الأقوى، فالمؤكد أن جميع حركات الإسلام السياسي، التي سلمت راية الإرهاب لبعضها الواحدة تلو الأخرى، بداية من جماعة الإخوان مرورا بتنظيم القاعدة وحركة طالبان وحتى الفروع والأذرع الأخرى، ووصولا إلى داعش، جميعها صناعة مخابراتية سواء أمريكية أو بريطانية. ولكن خلال الأيام الماضية، بدأت محاولات في الإعلام الغربي لتسريب تقارير تحاول تغيير دفة الإجابة، و"نفض" يد الغرب عن مسئوليته عن ظهور التنظيم، وإلصاق التهمة بأطراف أخرى. ومنعا للوقوع في هذا اللبس المتعمد، نستطيع التأريخ بوضوح إلى أن الظهور الأول لاسم "تنظيم الدولة في العراقوسوريا" تم تدشينه في 8 أبريل 2013، حين أعلن أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم في بيان مصور بأن جبهة النصرة تؤيد تنظيمه الوليد، وهو ما عارضه أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، ووقتها قرر البغدادي أن يشق طريقه بعيدا عن "القاعدة"، بل دخلا معا في صراعات، خرج منها "داعش" منتصرا. والوثائق التي سربها إدوارد سنودن المتعاقد السابق بوكالة الأمن القومي الأمريكي كشفت بالفعل عن أن البغدادي مجرد "دمية" في أيدي المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية وغيرها، وأن داعش صناعة "مخابراتية" هدفها قلب الاستقرار في الشرق الأوسط، كما أشارت هذه الوثائق أيضا إلى أن استراتيجية خلق داعش تقوم على نظرية "عش الدبابير" من أجل اجتذاب الإرهابيين من كل أنحاء العالم إلى المنطقة، ومن ثم يتم تدمير الدول العربية والإسلامية من الداخل عبر تغذية الصراعات الطائفية والعرقية. وعلى الرغم من هذه المعلومات، فإن كل هذه الوكالات المخابراتية تحاول الآن جاهدة نفض يديها مما صنعته بأيديها، عبر تسريب وثائق جديدة تثبت بعدها كل البعد عن صناعة الإرهاب في المنطقة. ومن بين هذه الوثائق ما نشرته مجلة "دير شبيجل" الألمانية عن معلومات تفصيلية تفيد بأن التنظيم الإرهابي هو من صناعة فلول نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، حتى يسيطروا على العراق مجددا عبر سوريا. الوثائق الجديدة مكتوب بعضها بخط اليد، وتتضمن رسوما بيانية وتوضيحية، وتشير إلى أن سمير عبد محمد الخليفاوي، العقيد السابق في مخابرات الجوية العراقية، واسمه المستعار حجي بكر، أو "الحاج بكر"، هو الذي وضع مخطط تشكيل تنظيم داعش، وأنه اختار البغدادي زعيما بهدف منح التنظيم "واجهة دينية". 31 ورقة تداولتها وسائل الإعلام الدولية تعتبر أن بكر هو المؤسس الحقيقي للتنظيم الإرهابي الذي ما زال يواصل جرائمه في كل مكان، لكن بكر لقي مصرعه – كما تقول الوثائق - خلال معركة مسلحة مع مقاتلين سوريين في يناير 2014، لكنه ساعد قبلها في الاستيلاء على مناطق واسعة من سوريا، وهو ما دعم أركان التنظيم، وحصل مقاتلون على أوراق التي تضم مخطط السيطرة على سوريا، والانطلاق نحو العراق. ولعل طريقة تنفيذ الخطة تكون واحدة في كل جماعات الإسلام السياسي منذ نشأة جماعة "الإخوان" الإرهابية بدعم من المخابرات البريطانية، فقد تم تأسيس مكاتب "الدعوة" في المناطق التي دمرها الصراع في سوريا من أجل المساعدات الإنسانية والطبية في 2013، لكن في الباطن كانت هذه المكاتب لتجنيد وتفريخ الإرهابيين والجواسيس. ولذلك، بدأ في السر إشاعة أن الاسم الحركي لمكاتب الدعوة هو "تنظيم الدولة"، وبدأ تجنيد التكفيريين الأجانب الذين توافدوا على المنطقة في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي تحديدا على سوريا، وذلك مثلما حدث خلال الغزو السوفييتي لأفغانستان، حينما توافد الأجانب على البلاد لتتشكل بعدها نواة تنظيم القاعدة. وعلى الفور، تحولت مراكز الدعوة إلى معسكرات تدريب للمسلحين والتكفيريين على القتال حتى يتم نشرهم على مناطق مختلفة. وبالفعل بدأت الخطة تتخذ مجراها بسقوط مدينة الرقة السورية في مارس 2013 في يد التنظيم ليواصل زحفه على المدن السورية، وتصفية المعارضين. وبعد وفاة بكر، اكتشف "داعش" أن لديه أرشيفا من مئات الوثائق التي تدور حول كل شيء، بداية من أفعاله الإجرامية، وخططه الجهنمية، حتى مواهب عناصره في لعب الملاكمة وصناعة المتفجرات، ولذلك، قرر التخلص من هذا العبء الثقيل بحرق غالبية هذه الأوراق، إلا أن أوراقا أخرى تم تسريبها، ربما تكشف عنها الأيام المقبلة. وعلى الرغم من الانتكاسات المتوالية التي يعاني منها التنظيم بسبب ضربات التحالف الدولي، أو خسارته المعارك في بعض المدن مثل "تكريت" العراقية و"عين العرب" السورية، فإنه من المبكر جدا الحديث عن هزيمة التنظيم الإرهابي، حيث أنه ما زال يواصل تمدده في سوريا، كما أنه يواصل عملياته الإجرامية في ليبيا، بل وينشر فيديوهات همجية عنصرية من أجل استعراض قوته بين الحين والآخر، بالإضافة إلى أن لم يتم تجفيف المنابع المالية لداعش في المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما يمكنه أيضا من مواصلة تسليح نفسه. وكأن التاريخ يعيد نفسه، يواصل الغرب محاولاته تفتيت المنطقة باستخدام الأدوات نفسها، ويستمر في لعبة "القط والفأر" مع صنائعه، حيث يصنع الإرهاب ثم يحاول التنصل منه وإعلان الحرب عليه بعد أن يضربه في عقر داره. ومن الصعب أن يصدق المواطن العربي، ولا العالمي، فكرة أن داعش صناعة صدامية، فقد اندلعت حرب كاملة ضد العراق بناء على معلومات مخابراتية اتضح لاحقا أنها كاذبة، ودفع العالم كله الثمن، ولهذا، فهذا المواطن نفسه ليس مطالبا بدفع الثمن هذه المرة عبر إقناعه أن صدام مسئول أيضا عن ظهور داعش، فالحقيقة معروفة للجميع. والعقل المدبر لداعش لا يمكن أن يكون طرف آخر غير العقل المدبر لظهور الإخوان والقاعدة وخلافه، والتاريخ يشهد بذلك.