يقولون: «ذهبت السكرة وجاءت الفكرة»، وهو ما قد ينطبق على الجدل والنقاش الحاد الذي ارتبط بالتوقيع على اعلان الخرطوم بشأن سد النهضة. لقد بلغت بعض التعليقات السلبية في شططها حد القول بأن الاتفاق يمثل شهادة وفاة للأمن المائي المصرى،في حين ذهب بعض آخر لدق الطبول واعلان الأفراح والليالي الملاح إثرالاعلان عن بيت الخبرة الدولي الخاص باجراء الدراسات الفنية للسد، باعتبار ذلك بمنزلة صافرة النهاية للماراثون المصري الأثيوبي.ليس الأمر بهذا القدر من التبسيط أو المبالغة، وإنما كما بينا سابقا في هذا المنبر أن الخيار التفاوضي هو الطريق الأمثل، وليس الوحيد، للوصول إلى اتفاق عادل ومنصف بشأن تقاسم مياه النيل. لقد ألقت مصر بثقلها السياسي لاحداث اختراق كبير في مفاوضات سد النهضة التي عانت طيلة أربعة أعوام من الجمود واضاعة الوقت نتيجة المماطلة الاثيوبية من جهة والانشغال المصري بقضايا الداخل من جهة أخرى. أصر الرئيس السيسي على الإشراف بنفسه على ملف المفاوضات، بل والذهاب إلى اثيوبيا من أجل مخاطبة مشرعيها في عقر دارهم ، وهو مايمكن أن نطلق عليه الهجوم بالاغراء Charm Offensive. ومع ذلك فإن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد حيث يتعين على المفاوض المصري أن يتبني استراتيجيات تفاوضية غير معتادة في اطار مساندة مجتمعية تتجاوز استقطابات السياسة وأهواء الأيديولوجيا. ويبدو أن سياسة لطم الخدود والتعليقات السلبية على اتفاق سد النهضة لم تكن مقصورة على الجانب المصري حيث نجدها تمثل أحد ملامح الجدل العام في إثيوبيا حول ذات الموضوع. يدفع ذلك إلى أهمية التعرف على الرؤى الاثيوبية بخصوص الاتفاق ، وببساطة شديدة كيف ترى أثيوبيا اتفاق اعلان المبادئ؟. في أوائل شهر أبريل 2015 نشرت جريدة «نازريت» الأثيوبية على موقعها مقالا باللغة الإنجليزية كتبه أربعة من المفكرين الأثيوبيين وهو بعنوان: «رؤى حول سد النهضة الاثيوبي العظيم». وعلى الرغم من أن المقال لم يتطرق للجوانب الفنية فإنه يعلن منذ اللحظة الأولى تشككه في إمكان استمرار الاتفاق بسبب انحياز المبادىء الواردة فيه لصالح دول المصب. ويطالب المقال كذلك بضرورة ترجمة نص الاتفاق إلى جميع اللغات الاثيوبية من أجل اثارة الحوار المجتمعي بشأنه. ولعل أبرز التحفظات التي أثارها المقال والتي تعني بالمقابل انها تحقق المصلحة المصرية ما يلي: أولا: تظهر الملاحظة الدقيقة لمبادىء الاتفاق العشرة صياغتها بشكل يؤكد بعض البنود الواردة في اتفاقات تقاسم المياه السابقة ولاسيما اتفاقية عام 1929 واتفاقية عام 1959، وكذلك الاتفاق الاطاري للتعاون بين مصر وإثيوبيا الموقع عام 1993. ولعل هذا الأمر هو الذي دفع بكتاب المقال إلى القول بأن الاتفاق غير منصف لإثيوبيا لأنه تجسيد لمنطق المباراة الصفرية باعتبار أن مصر هي الرابح الأكبر. ثانيا: لا يختلف النص الخاص بمبدا التعاون في جوهره عن روح اتفاق التعاون الاطاري لعام 1993 والذي تم انتقاده على نطاق واسع في اثيوبيا . ويبدو أن القصد هنا يتمثل في إمكان الاحتجاج ببنود اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية والتي تم اعتمادها في 21 مايو ،1996 وكذلك اعلان مبادىء القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون الدولي وفقا لميثاق الأممالمتحدة. وعلى الرغم من عدم تصديق الدول الثلاث على هذه الاتفاقية فإن المادة الأكثر اثارة للقلق عند الجانب الإثيوبي هي رقم 7 والمتعلقة بعدم التسبب بالضرر الجسيم من قبل دول المنبع. والمثير للاهتمام كذلك أن عبارة «مبادئ القانون الدولي» الواردة في اتفاق سد النهضة لا تعترف ضمنا ولا صراحة باتفاق التعاون الاطاري لدول حوض النيل، وهذا في مصلحة مصر بكل تأكيد. ثالثا:يتجنب النص المتعلق بعدم التسبب في ضرر ذي شأن استخدام عبارة المجاري المائية ، وهو ما يعني استثناء مصادر المياه الجوفية في كل من مصر والسودان. ويحاجج كتاب المقال الاثيوبيون أن مصطلح القانون الدولي قد استخدم بصورة انتقائية لصالح صاحب المبادرة الأصلى لوثيقة اتفاق سد النهضة. ومن جانب آخر فإن عبارة الضرر الجسيم لم يتم تحديدها، كما لم يتم تحديد طريقة تقاسم المياه أو الأضرار الناشئة عن الأخطاء الفنية في بناء السدأ وادارته أو نتيجة القضاء والقدر، وهو ما يجعلها عرضة لتفسيرات مختلفة. رابعا:تنص المادة الخامسة ضمنا على اعطاء المشروعية لعملية بناء السد ولكن مسائل ملء الخزان والمسائل الفنية لتشغيل السد يتم التفاوض بشأنها. وعليه من المفترض أن تكون عملية ملء الخزان بطيئة حتى لا تؤثر على تدفق المياه الواردة لدول المصب، وإن تعارض ذلك مع مبدأ تسريع ملء الخزان وفقا لاحتياجات اثيوبيا. وتخلص هذه الرؤية الاثيوبية إلي القول بأن الاتفاق الحالي حول سد النهضة يؤكد مضمون المادة رقم 5+كمت7--7- من اتفاق التعاون الإطاري عام 1993 والتي تفضلها مصر حيث تتضمن شروطا حول التعويض عن الأضرار، كما أنه يقيد نطاق مشروع السد، ويعترف «بالحقوق» المصرية من أجل اتخاذ اجراءات بشان النيل الأزرق. ورغم ذلك فإنه يتسم بالغموض عند الحديث عن استخدامات المياه في دول المصب، فضلا عن أنه يشمل جميع الروافد، وهي كلها أمور غير مواتية لاثيوبيا. واللافت للانتباه أن وجهة النظر الاثيوبية تلك ترى بأن اتفاق سد النهضة غير عادل وغير متوازن ويضرب بالمصالح الأثيوبية عرض الحائط. ولعل القراءة الموضوعية لهذه الرؤية الاثيوبية المهمة تؤكد أنها تسعى وبصريح العبارة إلى العودة بنا إلى المربع الأول أو نقطة الصفر كما يقولون، أي ضرورة الالتزام باتفاقية التعاون الاطاري لحوض النيل باعتبارها اتفاقية اقليمية تضم كل دول الحوض باستثناء مصر والسودان، و«كأنك يا أبوزيد ماغزيت» كما يقولون. إن حدية المواقف والرؤى بصدد اتفاق سد النهضة سواء في مصر أو في اثيوبيا تعبر عن تعقيدات السياقات التاريخية وتباينات المواقف السياسية التي جسدتها أجواء عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين. فالسؤال المهم يتمثل في كيف ينظر المصري للإثيوبي وكيف ينظر الاثيوبي للمصري؟. هل يتم ذلك من منطلق العداء والكراهية أم من منطلق الأخوة والصداقة؟.ماهي أنماط السياسات القديمة والتحولات المتسارعة في دول حوض النيل؟ما هو تأثير السياقات الاقليمية والدولية المتحولة؟. وربما تدفع الإجابة على تلك التساؤلات إلى خيارات تفاوضية رشيدة تعلي من مبادىء العدالة والانصاف في تقاسم موارد النهر. ولعل تفسير الخطاب السياسي والاعلامي السائد في كل من مصر والسودان واثيوبيا يستند إلى عاملين أساسيين: أولهما الطبيعة العاطفية التي ترتبط بمياه النيل باعتباره شريانا للحياة ينبع من بلاد الحبشة.وعليه فقد أضحت المبارة الصفرية هي نقطة الانطلاق لأي حل. أما العامل الثاني فإنه يرتبط بالانقسام الحاد بين دول المنبع ودول المصب حول النظام القانوني الحاكم لنهرالنيل والذي يرتبط في معظمه بالعصر الاستعماري. وأيا كان الأمر فإن الهجمة المصرية الناعمة قد أحدثت اختراقا مهما في مفاوضات مياه النيل وفتحت آفاقا جديدة أمام عودة الوجه الافريقي لمصر. لمزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن