نحتفل اليوم بتحرير طابا, آخر بقعة من أرض الوطن كانت تحت الاحتلال, بعد معركة سياسية ودبلوماسية شاقة, لدحض الادعاءات الإسرائيلية في الأممالمتحدة وفي المحكمة الدولية أيضا نحتفل بعد غد بعيد الأم, وهما محطتان مضيئتان قد تمدانا ببعض الأمل في بناء المستقبل, بعد أن أضحي التفاؤل معضلة في ظل الوضع العربي المأسوي, من ربيع افتراضي نحو الديمقراطية, إلي خريف عاصف من تدهور درامي للنظام العربي الإقليمي, فالتقي الربيع والخريف في زمن واحد, مما يجعل معضلة التفاؤل بالمستقبل ثقيلة, علي من يبحث عن الطريق لحل إشكاليات التقدم, وتمسكا بتلابيب التفاؤل, ما علينا إلا التأني, فكما يقول الشاعر تأن في الشيء إذا رمته... لتعرف الرشد من الغي لا تتبعن كل دخان تري... فالنار توقد للكي.. وقس علي الشيء بأشكاله, يدلك الشيء علي الشيء! لاشك أن فكرة العروبة تعاني الانسداد التاريخي علي الرغم من مخزونها المعرفي والقيمي, بعد أن ضاعت قوة العرب بفعل أعداء العروبة التاريخيين وشخصتهم ثورة( يوليو) من قبل, في الاستعمار العالمي والصهيونية والرجعية العربية, ومع التأن في تحليل ما يجري من وقائع بينة, نجدهم هم المعاول التي أرجعت العرب إلي العصور المظلمة, في العراق وليبيا, ومن قبلهما في فلسطين والصومال والسودان, فحاربوا العروبة بكل وسيلة فكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية, ودينية للأسف الشديد, فتم استخدام شيوخ النفط المجرمين للاستقواء بالأجنبي العدو علنا, في ظل تبريرات دينية خادعة, يتبرأ منها كل دين وأخلاق, وستظل الدماء العربية التي سفكت ظلما وعدوانا في رقابهم إلي يوم الدين! لا أنكر أن الأنظمة العربية وصلت إلي حالة من الجمود والفساد, مما جعلها كيانات من الحطب الجاف الذي تكفي شرارة صغيرة ليشتعل, ضد تحالف السلطة بالثروة, والاحتقان السياسي, وعدم الإحساس بعوائد التنمية, وتآكل الطبقة الوسطي المسئولة عن التوازن الاجتماعي والأخلاقي, كل ذلك أشعل الموقف بصورة غير مفاجئة, إلا أن الربيع العربي المنتظر, تم تحويله إلي خريف يهدد العرب جميعا, بعد أن فقدوا التعاون النسبي فيما بينهم, إلي درجة أن يتآمروا علي بعضهم البعض, وبدلا أن يفضي الربيع العربي لتنقية العروبة من عوامل الاستبداد, أعاد إنتاجه لقوي متشددة رجعية متأخرة, تحرض علي الانقسام والتطرف والانفصال, والتلاعب بمشاعر الرأي العام وتضليله في العمي الفكري المخل بمعايير القوة والتقدم علي كل الأصعدة, وتحقق الانفصال الرسمي والواقعي في عدة دول كالسودان والعراق وأخيرا في ليبيا الذين احتفلوا بتحريرها من طاغية, ليسلموها لمجموعة من الطواغيت, وهو ما يدبر لغيرها من الدول العربية التي لم يمسها الربيع المزعوم بعد, فكما قلنا.. يدلك الشيء علي الشيء. واحتفالنا بتحرير طابا مبعث تفاؤل للخروج من هذا النفق المظلم, لأنه يكشف عن أهمية مصر وقوتها التاريخية وثقلها السياسي, بما تملكه من قدرات عسكرية ودبلوماسية ومعنوية وثقافية, تجلت في( طابا) عندما تصدت الدبلوماسية العريقة للادعاءات الإسرائيلية واستردت طابا, فمن مصر بدأت النهضة العربية الحديثة علي مدي القرنين الماضيين, فالتاريخ متصل بالحاضر, وبلغت ذروتها مع ثورة يوليو, التي وفقت بين الوطنية المصرية والقومية العربية, وهو قائم علي أسس وطنية تبناها من قبل( مكرم عبيد) الذي ربط مصر بالعروبة ارتباط الجزء بالكل, فارتبط المشروع الوطني بالقومي العالمي, في نظرية الدوائر الشهيرة مجال الدور المصري في العالم العربي والأفرو آسيوي والعالم الثالث والعالم كله, وهو الدور الذي تخلت عنه مصر لأسباب مركبة بينما تبنته إسرائيل, وخارت القوة العربية حتي أن قوي الهيمنة الدولية, أصبحت تتفاوض علي مصيرهم مع قوي إقليمية أخري كإيران وتركيا, ولم ينقذ سوريا الشقيقة حتي الآن من المؤامرة الكبري عليها, إلا قوي دولية تكشف أبعاد الصراع الجيو استراتيجي في غياب تام للقوة العربية بعد غياب مصر, وانفراد أعداء العروبة( الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية) بالفعل علي أرض العرب, ونجحوا في تجنيد بعض المثقفين الذين تركوا الراية العربية ولم يفلحوا في خلق راية بديلة, مصر تملك تجربة حديثة جديرة بالاحترام, الذي لا يأتي أبدا مصادفة, فالمشروع الناصري القيم, قام علي الوحدة الوطنية, كقاعدة للعب دور عربي ودولي علي أسس قوية, فقدم التنمية والمشروعات الوطنية الإنتاجية في مقابل التطرف الديني المخرب, والوحدة العربية مقابل التفتيت والتجزئة والمدنية والمواطنة مقابل التعصب القبلي والجهوي والطائفي, ومن يتابع اهتمامات الناس ومطالبهم حاليا, يجدها تستدعي التجربة الناصرية في خدمة الوطن في الداخل, ودوره في الخارج من حيث تدري أو لا تدري, من مطالب الفلاحين في إعادة التعاونيات والدورة الزراعية, وحقوق العمال, وتدعيم الطبقة الوسطي إلي الانخراط في منظومة عربية وإقليمية ودولية, لتحقيق الأمن الدولي دون الاعتداء علي مصالح الدول الضعيفة والشعوب الفقيرة! يمكن تطوير التجربة التاريخية لمصر في محيطها العربي لتتلاءم مع العصر وطبيعة المنطقة, والتحرر من الاستبداد ومآلاته المشئومة, والتنبه إلي خطر الأدوات الحديثة في التلاعب بالرأي العام في وتشجيع التطرف والانفصال, والتي سماها الرئيس الروسي( فلاد يمير بوتين) القوة الخفيفة. أما مبعث التفاؤل الثاني, أي الاحتفال بعيد الأم فلأنه ارتبط في أصله بالدعوة إلي السلام ونزع السلاح, والدعوة لتوحيد النساء ضد الحرب بعد الحرب الأهلية الأمريكية, وما دفعته أمريكا من ثمن باهظ من أجل الوحدة التي تحرمها علي الآخرين, وعلي الرغم من فشل دعوة السيدة( جولينا هاو) في تخصيص يوم للمرأة ضد الحرب, إلا أن( أنا جارفيس) نجحت في تخصيص يوم لتكريم الأم, فتحتفل به أمريكا في الأحد الثاني من شهر مايو, ولكنها قامت بتنظيم مظاهرات واحتجاجات متكررة في النصف الأول من القرن الماضي, احتجاجا علي هذا العيد, الذي حولته الرأسمالية الأمريكية إلي يوم للاستهلاك, واستغلال العواطف النبيلة لترويج المبيعات للهدايا الثمينة, مما أخرج المعني الإنساني من مغزي هذا الاحتفال, فتري أن التعبير عن أسمي العواطف بأشياء رمزية, وكلمات رقيقة, هي أن يحمل الأبناء قرنفلة ملونة( حمراء) إن كانت الأم علي قيد الحياة, والأخري بيضاء لو كانت متوفاة, ولأن المناسبة النبيلة, تم تخصيصها استهلاكيا أودعت( جارفيس) السجن عدة مرات, لإصرارها علي الاحتجاج ضد هذا التشويه الإنساني. فهناك دائما الأخيار الذين يتحملون المصاعب من أجل المعاني الإنسانية النبيلة, فمثلما فعلت في عيد الأم خصخصت حاليا أمريكا والغرب من ورائها حقوق الإنسان وسيستها كأداة ضغط, في حين أنهم لا يقبلون أن يخضعوا لنفس المعايير الإنسانية التي ينادون بها, وهو ما تصدت له بشجاعة نادرة وثقة هادئة السيدة( فايزة أبو النجا) وزيرة التخطيط والتعاون الدولي, فشرحت بالتفصيل كيف تمول أمريكا كيانات غير قانونية تحت اسم حقوق الإنسان, بينما يشتمل عملها علي برامج مخابراتية خطيرة وحولته للقضاء, فلم تخش مثلها مثل( أن جارفيس) في تصديها للأقنعة المزيفة لومة لائم, فأعطت نموذجا مشرفا للمرأة المصرية وللوطنية الصادقة مهما كانت النتائج, مما خلق دفعة من التفاؤل بنهضة مصر من عثرتها, لتقود العرب من جديد, فكما غنت( ثومة) عن مصر: أنا إن قدر الإله مماتي لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي, فلن تموت مصر بإذن الله, مادام أبناؤها يعرفون قيمتها وكيف يحافظون عليها! فكل سنة ومصر وكل أم بألف خير!. المزيد من مقالات وفاء محمود