كنت قد كتبت قبل أسبوعين عن ضرورة إرساء منهج التعليم الأزهرى على مفهوم جديد للحقيقة يتسم بالنسبية والتعددية، تجاوزا للذهنية المغلقة التى تصوغ فهما دوجمائيا للإسلام نفسه يعادى التطور ويحابى الجمود، وفهما متعصبا للمعتقدات الأخرى، يحرمها من التقدير الذى تستحقه على ما قدمته من رؤى لاهوتية ومفاهيم أخلاقية ونزعات صوفية مهدت للذروة السامقة التى بلغها الإسلام فى نهاية رحلة البحث المضنية عن الحقيقة الإلهية. غير أن د. عبد الفضيل القوصى، عضو جبهة كبار العلماء بالأزهر الشريف، كتب معترضا على ما ذهبنا إليه، إذ رأى فى مفهوم نسبية الحقيقة نسفا للقيم المعيارية/ الأخلاقية، وفى التأكيد على ضرورته إدخالا له فى حيز المطلق الذى لايمكن مساءلته، ما يعنى أننا نكون قد دخلنا إلى فضاء المطلق من باب النسبى. ولأننى أقدر علم الرجل وتفتحه الإنسانى، أجدنى مدعوا للتفاعل مع طرحه الفكرى، الذى أتفق مع نقطة انطلاقه الأساسية، وهى عدم رفع مفهوم النسبية إلى حيز المطلق. ولكن ما غاب عنه وأود التوقف عنده هو ذلك الفارق الكبير بين مفهوم نسبية الحقيقة، كمفهوم حداثى بامتياز، يقع فى قلب مكوناتها الأساسية: العقلانية والعلمانية والفردية والمادية والتاريخية، وهو ما دعونا إليه. وبين النزعة النسباوية، كمفهوم ما بعد حداثى، يرفض كل حقيقة، ويتنكر لكل ثابت، بحيث يتحول العالم معه إلى فسيفساء من المعانى التى لامركز لها، وهو ما يخشى منه فضيلته. ففى سياق نسبية الحقيقة يصبح ممكنا للنزعة الفردية أن تنمو، وللشخصية الإنسانية أن تمتلك تصوراتها الذاتية من دون تنازع كبير مع غيرها، فما تحوزه من رؤى ليس إلا تجليات للحقيقة، لا الحقيقة نفسها، لأن الحقيقة المطلقة لاتتعدد، وإن امتلكها شخص واحد لا يمكن لشخص مختلف أن ينال منها نصيبا. أما فى سياق النزعة النسباوية فلا توجد حقيقة من الأساس، حيث تنبع تصوراتنا من أذهاننا نحن، لا من أى حقيقة خارجها، وهو ما ينفى مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، إذ يجعل من كل إنسان مشرعا أخلاقيا لنفسه فالفضيلة هى ما يراه كذلك، والرذيلة أيضا، ما يجعل من المثلية الجنسية، مثلا، فضيله ذاتية، وهو فهم ننأى عنه ليس فقط باسم ديننا العظيم، ولكن باسم المبادئ الكلية للعقل البشرى، وما تصوغه من أخلاق كونية وإنسانية. لا يعوق مفهوم نسبية الحقيقة بلوغ اليقين الإيمانى، حيث توجد ذات إلهية يشترك فى الاعتقاد بها جموع المؤمنين، ولكنه لا يعوق أيضا تعددية أشكال الإيمان، إذ يمكن لجماعات مختلفة من المؤمنين بناء تصورات مختلفة عن الذات الإلهية، وأن يسود التسامح بين تلك التصورات، وهنا يتبدى فارق حاسم بين رؤى الوجود ورؤى المعرفة فيما يخص مسألة اليقين. فالدين (أ) لدى المؤمن به جزء من رؤيته للوجود، أى من هويته الداخلية، التى لا يمكن الانفصال عنها، ومن ثم فاليقين به شعور طبيعى. أما هذا الدين نفسه، بالنسبة لشخص آخر يتبع الدين (ب)، فجزء من إدراكه المعرفى، بمعنى أنه يسعى للتعرف عليه بعقله باعتباره حقيقة خارجية بالنسبة له، يمكن أن يطرح حولها أسئلة ويفترض إجابات، لكن لا يمكن الجزم بصحة افتراضاته عنها، وإلا استحال متطرفا يسقط فهمه المنغلق على معتقدات الآخرين. وهكذا يصبح فهم كل شخص لدينه جزءا من عالم الوجود الداخلى، يمكن امتلاك اليقين به، فيما يبقى فهمه لأديان الآخرين جزءا من عالم المعرفة الخارجى، لا يمكن امتلاك اليقين بشأنه. بأوضح قول: يمكننى كمسلم امتلاك يقين إيجابى إزاء الله وإلا ما كنت لأبقى مسلما. ولكن يصعب ادعاء هذا اليقين الإيجابى نفسه إزاء (يهوه) أو (الآب) وإلا لأصبحت يهوديا أو مسيحيا، كما يستحيل على ادعاء يقين سلبى عنهما وإلا أصبحت دوجماطيقيا متعصبا. هذا الفارق النظرى بين الحقيقة الوجودية، والحقيقة المعرفية، ليس جدلا سوفسطائيا، بل موضوعى وربما حاسم فى تحقيق السلام بين البشر، عبر تعميم الإدراك النسبى لمفهوم الحقيقة كى يشمل مفهوم (الخلاص) الذى يقع فى مركز كل الأديان. يعنى مفهوم الخلاص أن يمتلك الدين طريقا خاصا به إلى الكائن الأسمى/ الله، يستطيع المؤمن من خلال السير فيه أن ينال عناية الله وبره فى الحياة، والحصول على رحمته وغفرانه بعد الموت. المشكلة هنا ليست فى مركزية مفهوم الخلاص، بل فى احتكاره الخلاص، والتى تبدأ سيرورتها من ادعاء أصحاب دين/ مذهب ما، بامتلاك الطريق الوحيد (القويم) إلى الله، ما عداه من طرق ليس إلا باطلا، يراوح بين الكفر والهرطقة والفسوق. ومن ثم محاولتهم تعميم هذا الطريق على الآخرين، ولنا أن نتصور ما يترتب على ذلك من حروب ودماء يتم إهدارها على طريق امتلاك الحقيقة الإلهية. وعلى العكس يقودنا مفهوم نسبية الحقيقة، ومن ثم الخلاص، إلى تحقيق التفاهم الإنسانى، وليس فقط التسامح الدينى، والفارق بينهما كبير رغم التشابه الظاهرى. فالتسامح الذى جرى اعتماده طويلا ينطلق من النصوص المقدسة بالأساس، ولذا لم يمنع الحروب الدامية سواء بين الأديان/ المذاهب المختلفة؛ كونه مفهوما استعلائيا، يؤمن بطهرانيته وحده، ولكن يمكنه التغاضى فقط عن دنس الآخرين، كضرورة (عملية) للتعايش، الأمر الذى يجعل منه مفهوما رجراجا، لأن حاكما أو شخصا، قد يرى إمكان التسامح مع الكفر/ الهرطقة، ربما يتبعه حاكم/ شخص آخر لا يرى ذلك، بل يتجه فورا إلى حصار الكفر وتصفية الهرطقة، حيث تتفجر الدماء. وأما التفاهم، فينطلق من إيمان جوهرى بأن الآخرين يملكون قدرا من الحقيقة مثلما يملك هو، حتى لو كان صغيرا، وهكذا لا يبقى الخطأ المحض هناك والصواب هنا، حيث كانت الحقيقة مطلقة، بسيطة واختزالية إلى حد السذاجة، بل يصبح الأمر محصورا فقط فى الأكبر من والأصغر من. ومن ثم يحتوى مفهوم التفاهم على تسامح أصيل ودائم ينطلق من إيمان صادق بنسبية الحقيقة، وتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على عديد الأديان والمذاهب، ومن ثم يصبح التعايش الكامل ممكنا هنا على الأرض، على قاعدة الإنسانية المشتركة، بينما الخلاص الأخروى، متروك لربنا جميعا، إله العالمين. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم