تصاعدت حدة الجدل داخل إيران حول مذكرة التفاهم التى تم التوصل إليها فى لوزان فى 2 أبريل 2015، بشأن المعايير الأساسية للاتفاق النووى المحتمل بين إيران ومجموعة "5+1"، والمزمع توقيعه قبل نهاية يونيو 2015، ويعود ذلك لاعتبارين رئيسيين: الأول، يتمثل فى التباين الملحوظ فى القراءتين الإيرانيةوالأمريكية للتفاهمات التى تم التوصل إليها. ففى حين اعتبرت إيران أن توقيع الاتفاق النووى المحتمل يجب أن يتزامن مع رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، وهى أحد الأسباب الرئيسية التى دفعت إيران من البداية إلى الدخول فى مفاوضات لتسوية أزمة ملفها النووى التى تجاوزت عامها الثانى عشر، فقد أكدت الولاياتالمتحدةالأمريكية، أن العقوبات سوف ترفع تدريجيا طبقا لمدى التزام إيران بتنفيذ بنود الاتفاق وبعد تقرير يصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية. معضلة الثقة وبدون شك، فإن هذا التباين يكشف عن دلالة مهمة تتمثل فى أنه رغم التوصل إلى تفاهمات أولية حول التسوية، إلا أن عدم الثقة ما زال يفرض نفسه على المفاوضات بين الطرفين. إذ أن القوى الدولية مازالت تبدى مخاوف عديدة من إمكانية اتجاه إيران إلى الالتفاف على الاتفاق، وهو ما تدعمه سوابق عديدة، على غرار تعمد إيران إخفاء بعض منشآتها النووية عن المجتمع الدولي. ومن هنا، ربما يمكن تفسير حرص الرئيس الأمريكى باراك أوباما على تأكيد أن “الصفقة ليست مبنية على الثقة وإنما على عمليات تحقق غير مسبوقة” وذلك للكشف عن أية محاولة من جانب إيران لانتهاك بنود الاتفاق المحتمل. فى حين أن إيران ترى أن الدول الغربية ربما تحاول انتزاع تنازلات كبيرة منها مقابل عدم الاستجابة لكل مطالبها وعلى رأسها رفع العقوبات. ورغم أن طهران تبدو مطمئنة، نسبيا، من موقف روسيا، التى أصرت على مواجهة مساعى بعض دول المجموعة، مثل فرنسا، للتوافق على أن يتم فرض العقوبات من جديد فى حالة انتهاك الاتفاق من جانب إيران بشكل آلي، لتكريس دورها كرقم مهم فى الأزمة النووية، حيث يمكن أن تستخدم حق “الفيتو” فى هذه الحالة، إلا أنها لا تستطيع الاعتماد على ذلك بدرجة كبيرة، خاصة أن احتمال حدوث تغيير فى موقف موسكو يظل واردا، على غرار ما حدث قبل ذلك، حيث وافقت الأخيرة على القرارات التى صدرت عن مجلس الأمن بفرض عقوبات على إيران، فضلا عن موقف روسيا تحدده مصالحها مع الغرب، ومدى رغبتها فى فتح ملف خلافى جديد يضاف إلى الملفات القائمة حاليا، على غرار الملفين الأوكرانى والسوري. وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن تفسير أسباب حرص المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية على خامنئى على إبداء قدر من التشاؤم إزاء إمكانية التوصل لاتفاق مقبول من جانب إيران حول برنامجها النووي، ففضلا عن أنه أشار إلى أن “التهنئة بهذا الاتفاق لا معنى لها”، فقد أكد أيضا أن “هذه التفاهمات لا تتضمن جديدا ولا تزيد من احتمالات توقيع اتفاق”. هذه التصريحات تحديدا، تشير إلى أن خامنئي، وخلفه كثير من مؤسسات الدولة، مازال يعتقد أن الإدارة الأمريكية غير جادة فى توقيع اتفاق شامل مع إيران حول الملف النووي، وأنها ستحاول الوصول لصيغة تتضمن تأويلات عديدة بحيث لا تستجيب لكل مطالب إيران. سيناريو الفشل ومن هنا، ربما يمكن القول إن الوصول لهذه التفاهمات الأخيرة رغم أنه يدعم من احتمالات التوقيع على صفقة نووية فى 30 يونيو 2015، إلا أنه لا يستبعد الاحتمالات الأخرى وعلى رأسها فشل المفاوضات أو تمديدها مرة أخرى من أجل إتاحة أكبر قدر من الوقت للتوافق على تسوية مقبولة للخلافات العالقة بين الطرفين، والتى لا تبدو هينة ولا يمكن حلها بسهولة. ورغم أن الإدارة الأمريكية اعتبرت أن تصريحات خامنئى هى ل”الاستهلاك المحلي”، بسبب الضغوط القوية التى يتعرض لها المفاوضون من جانب قوى سياسية عديدة نافذة داخل النظام، فإن ذلك لا يقلص من أهمية أنها تؤشر إلى وجود شكوك عديدة تنتاب القيادة العليا فى إيران تجاه نوايا واشنطن، وهو ما يضع سقفا واضحا للمسارات المحتملة للعلاقات بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية بعد توقيع الاتفاق المحتمل، بعد أن أشارت اتجاهات عديدة إلى أن هذا التطور ربما يكون مقدمة لتحسين العلاقات بين الطرفين تمهيدا لعودتها كاملة. أما الاعتبار الثاني، فينصرف إلى أن “إعلان لوزان”، كما يطلق عليه داخل إيران، تحول إلى محور مهم فى الصراع بين الرئيس حسن روحانى وفريق التفاوض النووى من جهة وبين خصومه السياسيين من المحافظين الجدد المسيطرين على مؤسسات عديدة داخل النظام، وعلى رأسها مجلس الشورى الإسلامى (البرلمان)، ومجلس صيانة الدستور، فضلا عن وسائل الإعلام الرئيسية من جهة أخرى، وهو ما يعود إلى تباين رؤية الطرفين للتداعيات التى يمكن أن تفرضها تلك التفاهمات سواء على برنامج إيران النووى أو على موقعها التفاوضى فى الشهور الثلاثة القادمة التى ستشهد جولات جديدة من المباحثات قبل التوقيع على اتفاق نووى محتمل فى نهاية يونيو القادم. حملة دعاية فقد اتجهت حكومة روحانى إلى تدشين حملة دعاية للتفاهمات التى وصفتها بأنها “انتصار” لإيران، باعتبار أنها مكنتها من الحفاظ على برنامجها النووي، مع ضمان رفع سقف العقوبات المفروضة عليها والتى أثقلت كاهل اقتصادها الذى يواجه أزمة مزمنة لم تفلح السياسات التى تبنتها الحكومات المتعاقبة فى تحييد تأثيراتها السلبية. وهنا، فإن الحكومة الإيرانية تشير إلى أن التنازلات التى قدمتها طهران فى المفاوضات “يمكن تعويضها بمرور الوقت”، باعتبار أن لديها القدرة والإمكانيات التى يمكن أن تنجح من خلالها فى استعادة قدرتها على تخصيب اليورانيوم لمستوى 20%، وعلى امتلاك كمية يعتد بها بهذا المستوي، فضلا عن أنها انتزعت اعترافا دوليا بحقها فى مواصلة عمليات التخصيب، رغم أن القوى الكبرى سعت فى البداية إلى حرمانها من ذلك. وفى هذا السياق، فإن اتجاهات عديدة داخل إيران ترى أن نجاح إيران فى انتزاع هذا المكسب تحديدا من القوى الكبرى يعود إلى إصرارها من البداية على تحقيق أكبر قدر من التقدم فى برنامجها النووي، رغم ارتفاع سقف العقوبات المفروضة عليها، وهو ما نجحت فى استثماره فى المفاوضات الأخيرة، إذ أنها تفاوضت من موقع قوة، استطاعت من خلاله الوصول إلى تفاهمات يمكن الاعتماد عليها فى توقيع اتفاق يحفظ حقوق إيران النووية. وبعبارة أخرى، فإن هذا التقدم الذى حققته إيران فى برنامجها النووي، خلال الأعوام الأخيرة، دفع القوى الدولية إلى تغيير هدفها فى المفاوضات مع إيران من التخلص من هذا البرنامج النووى برمته إلى وقف تقدمه فقط. عرقلة نووية لكن خصوم روحانى فى الداخل اعتبروا أن إيران لم تحقق نجاحا كافيا فى المفاوضات، وأن ما يمكن أن تحصل عليه بمقتضى تلك التفاهمات لا يرقى إلى مستوى التنازلات التى قدمتها، والتى تتمثل فى تقليص مستوى التخصيب من 20% إلى 3.67%، وخفض عدد أجهزة الطرد المركزى من 19 ألف جهاز إلى 6104 جهاز، منها 5060 جهازا سوف تبقى فى حيز التشغيل فقط، وحصر عمليات التخصيب فى منشأة “ناتانز” فقط، إلى جانب فرض رقابة شديدة على كافة منشآت البرنامج النووى والمنشآت الأخرى التى ترتبط به، على غرار مناجم اليورانيوم، ربما تمتد إلى منشآت أخرى أمنية، وذلك فى مقابل رفع للعقوبات لم يتم الاتفاق حول توقيته وكيفية تنفيذه، رغم الأهم القصوى التى تبديها إيران لذلك. وقد انعكست تلك الانتقادات فى تعليق حسين شريعتمدارى رئيس تحرير صحيفة «كيهان» (الدنيا) القريبة من مؤسسة المرشد، على إعلان لوزان، حيث قال: “أعطينا فرسا مسرجا وحصلنا على لجام مخروق”، بما يعنى أن إيران لم تنجح فى استثمار نقاط القوة التى يوفرها لها التقدم الكبير فى برنامجها النووى للخروج بتفاهمات تحقق لها أكبر قدر من المكاسب. ورغم أن الحرس الثورى رحب بالاتفاق، وأشاد بالمفاوضين النوويين، إلا أن ذلك لم يمنع المؤسسة العسكرية من التحذير من خطورة توسيع نطاق الرقابة التى ستقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفقا للاتفاق المحتمل، ليمتد إلى بعض المنشآت العسكرية، أو تبنى آليات جديدة فى عمليات المراقبة، بشكل ربما يمثل محورا آخر للخلاف بين إيران ومجموعة “5+1”، التى تتشكك فى إجراء إيران تجارب على أبحاث تعزز من وجود جانب عسكرى لبرنامجها النووي. تعطيل محتمل من هنا، اتجهت الحكومة إلى محاولة استيعاب الانتقادات الداخلية التى تصاعدت حدتها فى الفترة الأخيرة، لاسيما بعد تصريحات المرشد خامنئي، حيث وجهت رسائل عديدة تفيد أنها لن توقع على اتفاق نووى ما لم ترفع العقوبات المفروضة عليها فى اليوم نفسه. لكن ربما يمكن القول إن أهم ما تعمدت الحكومة توجيهه إلى الداخل تحديدا، هو إلقاء الضوء على قضية لم تحظ، للمفارقة، باهتمام الأطراف المعنية بالأزمة النووية رغم تأثيراتها المحتملة، وتتمثل فى مستقبل البرنامج النووى بعد انتهاء القيود التى سوف تفرض عليه بمقتضى أى اتفاق نووى محتمل. ففى رؤية الحكومة، فإن إيران يمكن أن تواصل العمل فى برنامجها النووى بعد عشر سنوات، فى الوقت الذى سوف ترفع فيه العقوبات الدولية المفروضة عليها. وبمعنى آخر، فإن الحكومة ترى أن إيران تستطيع تعويض أى “تعطيل محتمل” فى تقدمها النووى فى المستقبل، خاصة أنها سوف تحتفظ، بمقتضى التفاهمات الأخيرة، بالحق فى مواصلة أبحاثها حول التخصيب وأجهزة الطرد المركزي. وقد أشار وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى تلك القضية تحديدا خلال الجلسة المغلقة التى جمعته مع أعضاء البرلمان الذين وجه بعضهم انتقادات قوية للتفاهمات، حيث قال أن “إيران ستقوم فى اليوم الأول من الاتفاق بمواصلة عمليات البحث والتطوير على أفضل جهاز طرد مركزى لديها وهو “IR-8” الذى ستقوم فى وقت ما بإنتاجه”. فرصة أخرى ورغم أن مستقبل البرنامج النووى الإيرانى بعد انتهاء مدة الاتفاق ربما يكون أحد المحاور الخلافية فى المفاوضات القادمة بين إيران ومجموعة “5+1”، حيث لا يتوقع أن تستجيب القوى الدولية لمطالب إيران بسهولة، إلا أن ذلك يطرح دلالة مهمة، ربما تمس مصالح وأمن دول المنطقة بامتياز، وتتمثل فى أن تسوية الأزمة النووية بمقتضى الاتفاق المحتمل فى الشهور القادمة لن تمثل، على الأرجح، نهاية المطاف للمخاوف التى ترتبط بالبرنامج النووى الإيراني، الذى ربما يعاد تسريع العمل فيه من جديد بعد عشر سنوات من الآن.