فى خطوة غير معهودة كثيرا، رن صوت الهاتف، آلو، جاءنى صوت اللواء عبدالحميد الهجان محافظ قنا متحمسا، عاتبا: دكتور... إحنا منسيناش أبوشوشة «العضاضية»، ومش هننساها، كل داء له دواء: «مأخذ المية» كلفتُ الشركة المسئولة اليوم - بنقله إلى المياه الجارية داخل النيل، بعيدا عن الراكدة، ليشرب أهل القرية وما حولها مياها نظيفة، الشوارع سنكمل رصفها، وتم إدراجها فى مخطط الصرف الصحي، خلال فترة زمنية وجيزة، بعد توفيرالتجهيزات اللوجستية.. ثم أردف نحن نتحرك فى خدمة الناس ونساعدهم، بتحسين ظروفهم المعيشية فى كل قرى محافظة قنا، ومن بينها «أبوشوشة- العضاضية». شكرت المحافظ على اهتمامه بما كتب فى هذه الزاوية، بعنوان»قرية المرار الطافح»، وسرعة استجابته للأهرام، فى يوم النشر نفسه..! بانتهاء المكالمة، قفزت إلى خاطرى أفكار ومشاعر متباينة، ثم بدا لى يقين بأن الشعور بالذنب ليس جسرا لتغيير الحاضر وبناء المستقبل، إنما الإحساس بالمسئولية ورؤية الأشياء على حقيقتها والتعامل الخلاق مع الأزمة ببصيرة وإرادة وعزم. لمست هذا فى كلام اللواء الهجان، وحرارة الصدق فيه، تجسيدا لفرق جوهرى بين مسئول يدرك حدود وظيفته ومتطلباتها، يبذل قصارى جهده لتغيير الواقع القاسي، وآخر يتغاضى عن أبسط واجباته، ويضع على كاهل الخلائق إصرا على إصرهم، خاصة فى صعيد مصر، موطن الآلام، الغارق فى الفقر والمشكلات اليومية، حتى أصغر نجع من نجوعه، المبتلى إلا قليلا، بمسئولين شيمتهم «التطنيش»، لأناس يصرخون من فرط المواجع ولا مجيب. لقد كشفت ماسورة الشكاوى التى انفجرت، والاتصالات التى انهمرت على الأهرام - من أبوشوشة البلد ومن على شاكلتها من قرى مصر بالوادى والدلتا، عن حكايات لاتصدق عن فساد المحليات وخراب الذمم وتردى خدمات التعليم والصحة والنقل وتدهور البنى الأساسية.. فى «العضاضية» تمرح الفراخ النافقة على سطح «الترعة المرة»، ويحمل «مصرف سلام» مياه الصرف الصحى من قرى أبوتشت إلى «جوف النيل»، والمافيا تنهب الأراضى وتقيم الأبنية داخل النهر، بأبوشوشة، على مرأى ومسمع من المسئولين، الأخطر انعدام فرص العمل، وصولا إلى الوقوع فى «أسر» الجوع، والجوع كافر لايرحم.. أو الانخراط فى المخدرات التى تطحن الجميع تجارة وتعاطيا، إنه مجرد نموذج حى متكرر، يراه القاصى والداني، مثالا صارخا لقرى الصعيد، قرى التيه التى تشهد دائما «وقائع موت معلن»، دون أن يهب أحد لنجدتها، لأنها بعيدة عن قلب القاهرة وأضوائها والبعيد عن القلب بعيد عن العين. يا إلهي، هل هذا هو الصعيد الذى نبتت على شاطئ نيله أشرعة الحضارة الإنسانية، وساحت منه ضروب المعرفة إلى العالمين، ووحد أحد أبنائه الوجهين القبلى والبحري، فكانت بهية «أم الدنيا».. بلاد المعابد والأبطال الشجعان والحالمين الطيبين، العصية على الاستعمار والانكسار ، تخور أمام الفقر، وحش يمرح بلا رقيب، سارقا الأرواح والأجساد، وكأن الإنسانية عادت إلى بدائيتها. وبغض النظر عن سعادة طارئة تصيبك، لأن الله جعلك سببا لإنقاذ أحدهم، كلما وجدت صدى إيجابيا وعناية المسئولين بما تطرح من آراء وتنبه إليه من أزمات، فإن هذا كله يظل بعيدا عن الجذر الحقيقى للواقع المأسوى فى الصعيد «الشقيق»، وهو بإيجاز شديد الحضور الباهت للتنمية، وهو أمر مسكوت عنه من جانب الحكومات المتتابعة، التى تتشدق بتعمير هذا الجزء من «لحم الوطن»، بينما يسود صمت تنموى رهيب، وإذا ضفرنا ذلك مع المناخ الاجتماعى العتيق، لعلمنا لماذا تزداد الأشياء قتامة صباح مساء، إذ ظلت الدولة تدير مشكلات الصعيد دون أن تحلها، والبون شاسع بين الإدارة والحل، تماما مثلما أن الفرق بين «الحرب» و»الحب» ليس حرفا واحدا، إن توارى الإنجاز فى هذه البقعة المظلوم أهلها قصة حافلة، تستحق الدراسة والمعالجة. من المؤكد أن الغضب لايجدي، فالخطوات الغاضبة عمياء، لا ترى أمامها ولو فى وضح النهار، و«المرار الطافح» فى أبوشوشة، يقول لنا إن التحدى أكبر من جهد محافظ، مهما تتسع همته، أو«وعد حر» يكون دينا عليه، بل لابد من خطة دولة ترعى أبناءها حتى يحملوها فى قلوبهم.. السؤال المفرح: هل آن الأوان لتخليص أبناء الصعيد من مرارة النبذ والإهمال، أما السؤال الكبير الذى تقذف به الأفواه الجائعة والصدور المكروبة، فهو: أين فرصة العمل؟.. فلا فائدة من أى شيء دون تقليل حدة البطالة العارمة بين الشباب، الحكومة الحالية ليست جانية على الصعيد، نعم، لكنها ربما تصبح شريكا فى الجرم لو سارت على نهج أسلافها من حكومات سافرت بأحلام الصعايدة إلى النجوم، وعادت باليأس المحترق من الشهب، لاطريق للتقدم سوى رفع عجلة الأداء، والنظر إلى الصعيد بوصفه «مشروعا قوميا»، تماما مثل قناةالسويس الجديدة، بمعنى أننا بحاجة إلى ملحمة حقيقية على أرض الجنوب، تجهز على المآسى وتفتح أبواب الأمل والعمل والإنتاج، وتضع خطا على الرمال لمعضلات أهالينا بجنوب الوادى الذين ضاقت بهم السبل البيروقراطية، الرائجة حاليا فى معاملتهم، ومن بينها بالطبع قرية المرار الطافح ابوشوشة وانا بانتظار وعد الهجان المحافظ الهمام، فالعبرة بالخواتيم، وإن غدا لناظره قريب. [email protected] لمزيد من مقالات محمد حسين أبوالحسن