من بين المشاهد المثيرة فكرياً التى لم تأخذ حظها من التغطية الإعلامية الأسبوعين الماضيين, ذاك السجال الذى جرى بين الأمريكيين وبعضهم البعض، فيما اتصل بالجانب المصري، فما بين نجاحات قمة شرم الشيخ الاقتصادية, ومبادرات الرئيس السيسى فى السودان وإثيوبيا، والتى لا تقل أهمية عن مبادرة الرئيس السادات لزيارة القدس، غاب عن أعين الكثيرين، الهجومات التى لا يزال فريق من الإعلام الأمريكى يصر على اتهام مصر بها، كما فعلت صحيفة النيويورك تايمز،وقد جاءت إحدى افتتاحياتها الأخيرة تحمل كراهية مجاناً وشراً بدون مقابل لمصر, ما يدفع المرء لأن يتساءل للمرة الأولى بعد الألف: « لماذا يكرهوننا على هذا النحو» ؟ المقال يستعدى الرأى العام الأمريكى ضد مصر بشكل عام ورئيسها على نحو خاص، كما يغمز من طرف واضح غير خفى للادارة الأوبامية، مؤملا أن تستخدم حقها فى تعطيل المعونة العسكرية الأمريكية السنوية لمصر، والتى يدفع غالبية أعضاء الكونجرس فى طريق إنجازها بالكامل فى القريب العاجل، عطفا على المساعدات الاقتصادية، التى أشار الوزير كيرى على هامش مؤتمر شرم الشيخ، إلى فرضية الإفراج عنها سريعاً . كان يمكن لافتتاحية الصحيفة الأمريكية الشهيرة، أن تثير حالة من الغضب داخل أركان الدولة المصرية، وربما لو كنا فى عصر آخر بخلاف «زمان السيسى» لكانت الحناجر الزاعقة، قد أبلغت ردودها بلغة خشبية لواشنطن، غير أن الأمور نحت طريقا مغايرا، وسلكت دربا من الرفعة والسمو يعرفه العالم الراقي، وتسلكه الأمم المتحضرة. جاءت الردود المصرية على النيويورك تايمز عبر حوار السيسى مع صحيفة الوول ستريت جورنال، صافية رقراقة، تجيد مخاطبة الذات الأمريكية المصابة بالعظمة الإمبراطورية، دون أن يتوانى ولو لغمضة عين فى الذود عن كرامة مصر. لم يقزم الرئيس المصرى من واشنطن «مالئة الدنيا وشاغلة الناس» بل بالعكس من ذلك، أعطى لهم فسحة ومتسعا للشبع من الغرور الذى يداعب جفونهم فى النوم واليقظة، وبخاصة عندما تحدث عن واشنطن الملقى على عاتقها مسئوليات جسام حول العالم، بوصفها القوة الفاعلة الأولي، وقد بلغ الأمر حد اعتبار محاوره، أن السيسى يبدو وكأنه المؤيد الأكثر حماسة لفكرة «الباكس أمريكانا» أى الهيمنة الأمريكية التى تجلب السلام والاستقرار، وهو المفهوم المتصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الاستثنائية الأمريكية، وبجذور الرؤية والنظر لواشنطن وكأنها الدولة التى لا يمكن الاستغناء عنها... indispensable. فى حوار السيسى مع الوول ستريت، كانت هناك رسائل طمأنة للرأى العام الأمريكي، ولسياسيى أمريكا، ولنخبتها : «دولة مثل مصر لن تعبث أبدا بعلاقتها الثنائية مع أمريكا» ولهذا فإن اختزال العلاقات الثنائية من القاهرة إلى واشنطن والعكس فى شحنة أسلحة، أمر غير عقلاني، بل: «لن ندير ظهورنا لكم أبداً ، وحتى إذا أدرتم ظهوركم لنا» . هل هى فلسفة علم النفس فى التعاطى مع الذات المضادة، عبر العزف على أفضل ما يمكن أن يكون مختبئاً فيها من مبادئ إنسانية؟ لعل من يرقب بوصلة الاتجاهات السياسية والحزبية فى العامين الأخيرين, يدرك أن لغة السيسى غير الخشبية حكماً كان لابد لها من أن تجد أنصاراً وأشياعا يتزايدون يوماً تلو الآخر. قبل حوار الوول ستريت دعا النائب الأمريكى «دانا رور اباتشر» عن ولاية كاليفورنيا,، رئيس مجلس النواب الامريكى «جون باينر» لتوجيه الدعوة للرئيس المصرى لإلقاء خطاب فى الكونجرس.. أما السبب، فلأن:«السيسى جعل بلاده حصناً ضد انتشار الإرهاب، وفتح الباب واسعا لإجراء إصلاحات فى العالم الإسلامي, بحيث يمكن العيش فى سلام ووئام مع بقية دول العالم» . عقب ذلك كان النائب فى الكونجرس «ستيف كينج» يزور مصر، منفقاً من ماله الخاص وعلى غير هوى «باينر» ليحافظ على وعده بلقاء السيسي, وقد وصف الرئيس المصرى بعد لقائه معه بأنه «قوة أخلاقية مسلمة». بعد الحوار وفى لقاء عبر شبكة «فوكس نيوز» رفض نائب رئيس تحرير وول ستريت جورنال، بريت ستيفنز والذى أجرى الحوار، وصف السيسى بأنه ديكتاتور، قائلاً إنه يتمتع بشعبية واسعة بين المصريين، وقد وصل إلى السلطة عبر الانتخابات، أما عن فكرة قطع المعونة عن مصر فإنه أمر «سيكون غباء لا يصدق إذا فعلت الولاياتالمتحدة ذلك». ماذا يعنى ما تقدم؟ بدون اختصار ممل، هناك نجاح فى رسم صورة حقيقية لمصر فى الداخل الأمريكي، بعيدة عن الصورة الممجوجة، والمشوهة التى يريد البعض تخليقها، لأغراض لا تخفى عن ناظر اللبيب. ولعل الذكاء هنا هو أن من يرسم الصورة هم أبناؤها، بأياديهم البارة بها، وليس سراً القول إن واشنطن لن تخلو من أولئك الذين يقومون بتعريفك ورسم صورتك إن أنت تقاعست عن تعريف نفسك. يؤمن السيسى بأن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن الوصول لعقل وقلب الأمريكيين فى حاجة إلى أدوات تمزج بين السياسى والديني، العقلانى والميتافزيقي، إنها أمريكا التى يأتيك منها كل عجيب. هل حان الوقت للجنة مصرية مجتمعية حكومية على أعلى مستوى فكرى تكون مهمتها الأولى والأخيرة رسم صورة لمصر فى الداخل الأمريكى بطريقة مستقرة ومستمرة كنواة للوبى قائم، وبعيداً عن الجماعات التى لا تلبث أن تظهر قليلاً ثم تضمحل، فى أوقات الملمات والزيارات الرسمية؟ أم أن على السيسى أن يرسم الصورة بمفرده أبداً ودوماً ؟. لمزيد من مقالات إميل أمين