أوكلت الدولة المصرية إلى شيوخ مؤسستها الدينية العتيدة مهمة إحداث ثورة فى الفكر الدينى لكى تتمكن من تجاوز المأزق الذى تواجهه؛ والذى بدا أن سؤال الدين يحتل موقعاً مركزياً فيه. وآنئذ فإن أصحاب الفضيلة من القائمين على رأس المؤسسة، ذات التاريخ العريق فى إنتاج القداسة، قد بادروا إلى إعلان احتشادهم من أجل إنجاح هذه الثورة المأمولة. لكن ما تواتر عن هؤلاء الفضلاء بخصوص كيفية إحداث هذه الثورة يكشف عن أن إنجاحها يحتاج إلى ما هو أبعد من مجرد إعلان «النية» على التجاوب معها؛ حيث الأمر يقتضى وجوب امتلاك «القدرة» التى تؤهل لإنجازها. ولأن الأمر يتعلق بثورة فى الفكر؛ وبما يعنيه ذلك من أنها ثورة ذات طبيعة معرفية بالأساس، فإن «القدرة» المطلوبة هنا تتحدد بامتلاك الشروط المعرفية التى تجعل تحقيق مثل هذه الثورة ممكناً حقاً. وتتمثل هذه الشروط المعرفية فى جملة الأدوات والمناهج والمفاهيم التى أثرى بها العقل المعاصر ميادين النظر فى الإنسانيات وغيرها. وضمن هذا السياق، فإن الأمر لا يتعلق بالسعى إلى الثرثرة بتلك النتاجات المعرفية المعاصرة بقصد التجمُّل وبيان الانتساب إلى عصر الحداثة، بقدر ما يتعلق بأدواتٍ ومفاهيم تفرض نفسها على الناس، فلا يقدرون إلا على استخدامها؛ وبما يعنيه ذلك من وجوب فهمها واستيعابها، وإلا فإن الأمر لن يتجاوز حدود الثرثرة بها. فالناس لايستخدمون الأدوات والمفاهيم الحديثة من أن يتجمّلوا بها، بل لأنه يستحيل عليهم من دون استيعابها أن يتمكنوا من الإمساك بالأصول الغائرة للمشكلات التى يواجههم بها عالمهم. ولعل مثالاً على أحد المفاهيم الحديثة التى لا يتوقف الناس عن التعامل بها فى الوقت الراهن، مع ما يبدو من عدم قدرتهم جميعاً على تعيين حدوده والإمساك بحمولته المعرفية العميقة، يتمثَّل فى مفهوم الخطاب. فقد شاع استخدام هذا المفهوم حتى بين الجمهور؛ وإلى حد أنه لو جاز للمرء أن يحدد مفهوماً هو الأكثر استعمالا فى التداول اليومى بين الناس فى الوقت الراهن لكان هو مفهوم «الخطاب». وقد ارتبط الشيوع العمومى لهذا المفهوم بما جرى من الاقتران بينه وبين الدين فيما بات يُعرَف بالخطاب الدينى الذى يتعاظم الحديث عن ضرورة تجديده بعد تزايد الانفجارات المُنبعثة من المخزون الدينى الراكد كأحد تداعيات ثورات العرب الأخيرة. ورغم هذا الشيوع فإنه يبدو- ولسوء الحظ- أن وعياً بالمفهوم يكاد يكون هوالأكثر فقراً على الإطلاق؛ وحتى بين المستعملين له من شيوخ المؤسسة الدينية الموكول إليهم مهمة القيام بتجديده. فقد بدا أن التداول الكثيف للمفهوم على ألسنة أصحاب الفضيلة من شيوخ المؤسسة غير قادر على إخفاء الغياب الكامل لحمولاته المعرفية التى لم يكن للمفهوم أن يحضر، مع غيابها، إلا كمجرد حِلية لامعة يزركشون بها بلاغتهم. وهنا يلزم التنويه بأن الحمولات المعرفية لمفهوم الخطاب بالذات إنما تفرض على شيوخ المؤسسة ما لا يقدرون على قبوله والاشتغال بحسبه. ومن هنا أنهم، وحتى على فرض امتلاكهم للوعى بحدوده وحمولاته، قد اختاروا أن يكتفوا بترديد المفهوم من دون أن يتورطوا فى تشغيله. إذ الحق أن تشغيل هذا المفهوم سوف يئول إلى تقويض جدران هياكل التقليد التى تستمد المؤسسة مبرر وجودها، من القيام على حراستها. وإذ ينبنى هيكل التقليد الذى تحرسه كل مؤسسات الدين على أعمدة العقيدة والفقه، فإن ذلك يئول إلى وجوب التمييز داخل «الخطاب الدينى» بين سياقين يتشكل فيهما؛ أحدهما هو السياق الفقهى وأما الآخر فهو العقيدي. وانطلاقاً من أن الخطاب يتضمن داخله وحداتٍ خطابية أصغر، فإنه يجوز الحديث عن خطاب فقهى وآخر عقيدى يندرجان معاً تحت مظلة «الخطاب الدينى» الذى بادر شيوخ الأزهر إلى الإعلان عن تصديهم لمهمة تجديده الآن.والحق أن اشتغالاً بمفهوم الخطاب على كل من الفقه والعقيدة سوف يئول إلى تبلور الشروط التى ستؤدى فى النهاية إلى خلخلة الشكل المستقر لوجود المؤسسة الدينية فى مصر. وإذ لا معنى لذلك إلا أن المؤسسة سوف تزلزل وجودها ذاته إذا اشتغلت بمفهوم الخطاب على ما تقوم بحراسته، فإن فى ذلك تفسيرا لحقيقة أن أصحاب الفضيلة من الشيوخ الأجلَّاء لن يتجاوزوا حدود الثرثرة بمفهوم الخطاب، من دون أن يكونوا قادرين على تشغيله. ولعل ذلك ما ينكشف جليا مع الاشتغال بمفهوم الخطاب على الفقه بالذات. فإذ ينصرف معنى الخطاب إلى الفكرة الكلية التى ينبنى حولها مجال معرفى تندرج داخله جملة أقوال جزئية متباينة، من دون أن يؤثر ما يقوم بينها من التباين على استغراقها جميعاً داخل المجال المعرفى الذى تحكمه تلك الفكرة الكليّة، فإن ذلك يئول إلى تجديد الخطاب يكون بتجديد تلك الفكرة الكليّة، وليس بإبراز قولٍ وإخفاء آخر من الأقوال الجزئية التى تندرج تحتها. وهكذا فإنه إذا كان الخطاب الفقهى يتسع لأقوالٍ جزئية تتعدد وتتباين بحسب تعدد الفقهاء وتباينهم، فإن تجديداً له لابد أن ينصرف إلى الفكرة الكليّة التى تندرج تحتها كل أقوال الفقهاء وأحكامهم. ولسوء الحظ، فإن تصور شيوخ المؤسسة لتجديد الفقه لا يتجاوز حدود إحلال قول فقهى محل آخر من دون أن يتطرقوا أبدا إلى الفكرة الكلية الحاكمة لتلك الأقوال؛ والتى لن يكون ممكنا تجديدها أو التأثير فيها من خلال الإحلال لقولٍ جزئى محل آخر. وإذ يئول ذلك إلى أن تجديد الفقه هو فى حقيقته تجديد للفكرة الكلية التى ينبنى عليها خطابه، فإنه يلزم التنويه بأن هذه الفكرة تتمثل فيما يبدو من أن «التمييز» بين الرعايا فى الحقوق بحسب النوع (ذكر وأنثى)، والدين (مسلم وغير مسلم) والمكانة الاجتماعية (أحرار وأرقاء) يكاد يكون هو المبدأ الذى ينتظم كل تفكير فى الفقه. وهكذا فإن المراكز القانونية للمشمولين بأحكام هذا الفقه ليست متساوية، بل تتباين باختلاف أوضاعهم فى النوع والدين والمكانة. وإذ تنسرب هذه الفكرة فى كل أبواب الفقه وأحكامه، فإنه لا مجال لتجديد الفقه من دون تجديدها قبل أى شىء. ولعل القيمة القصوى لتجديد تلك الفكرة لا تتآتى فحسب من ضرورته لبناء دولة حديثة تتساوى فيها المراكز القانونية للأفراد من دون تمييز بينهم، بل ومن ضرورته لتحقيق ما يؤكده القرآن من التسوية بين البشر.... فهل يقدر على ذلك أصحاب الفضيلة أم أن الأمر يتجاوز طاقتهم النفسية والمعرفية؟!! لمزيد من مقالات د.على مبروك