ليس صُنع السياسة الخارجية لأي دولة مهما كان حجمها بالأمر السهل, فهذه تحديدا لا تخضع فقط لامكانات الدولة وقدراتها المختلفة وإنما تتأثر سلبياً وايجابايً بالبيئتين الدولية والاقليمية التي تُمَارس في إطارهما واللتين وبحكم التعريف متغيرتان. ورغم ذلك فلابد من الاعتراف بأن السياسة المصرية شهدت نقلة نوعية في الآونة الأخيرة من حيث توجهاتها وفلسفتها، وهو ما بدا في تحركاتها سواء علي المستوي الدولي أو الاقليمي بعد فترة طويلة من الركود اتسمت بها عهود سابقة حتي تقلص الدور المصري. والركود هنا كان يعني الانحياز إلي الأسهل أي عدم الفعل درءاً للمشكلات وهروبا من اتخاذ قرارات وتحمُل تبعاتها ومسئولياتها فكانت الحركة «ظاهرية»، في حين السياسة واقعيا تُراوح مكانها تسعي فقط للحفاظ علي الأوضاع القائمة منعا لمزيد من التدهور حتي أصبح ذلك هدفا في ذاته. إنها ببساطة كانت سياسة «اللاسياسة» واختيار «اللا اختيار». إن هذا الوضع لم يأت فقط علي دور مصر وإنما سمح لدول أخري أن تُراكم نفوذها بل وتتحكم في مصير الاقليم دون رادع أو فعل مضاد يعادلها. لذلك عندما نُقّيم السياسة الخارجية الحالية علينا أن نتذكر ماذا كانت عليه وكيف أصبحت اليوم, إنه الخروج من حالة الجمود الذي لم يعد خياراً في ظل الأوضاع الاقليمية الضاغطة بل ترفاً لا تقدر عليه أي دولة حتي وإن رغبت فيه. ملامح الجديد في تلك السياسة كثيرة فالانفتاح علي روسيا هي خطوة مهمة لتعدد مصادر القوة والخيارات المتاحة، إعادة بناء التحالفات الاقليمية مع الدول الخليجية بصورة أكثر فاعلية هي ملمح ثان، اقتحام المشاكل والجرأة في التصدي لها خاصة ما يتعلق بمواجهة الارهاب العابر للحدود ملمح ثالث، فتحرك مصرعسكريا ضد قواعد التنظيم المتطرف في ليبيا (داعش) هو مثال وكذلك التصدي للمليشيات المسلحة المرتبطة بحركة حماس في سيناء التي باتت تشكل خطرا متزايدا علي الأمن القومي من الجهة الشرقية. إذن مصر تعيد صياغة دورها الاقليمي من خلال سياسة خارجية نشطة, وكأي سياسة من هذا النمط لابد من أن تواجه تحديات ليس لخطأ في توجهاتها الرئيسية ولكن لأنها لا تدور في فراغ أو تمتلك منفردة الساحة الاقليمية. وأول تلك التحديات يتعلق بإعادة صياغة هذا الدور في ظل أوضاع تعد هي الأسوأ منذ نشأة النظام الاقليمي العربي في أواخر الأربعينيات، والتي تعتبر الجامعة العربية هي رمزه المؤسسي. فهذا النظام بقواعده وحدوده المعروفة والعلاقات البينية التي كانت تربط دوله ببعضها البعض لم يعد تقريبا موجودا، إذ أخلي مكانه طوعا (بحكم كثير من السياسات الفاشلة) أو رغما عنه - لنظام آخر لم تتضح معالمه بعد, فإما أن يعيد بناء نفسه في صورة جديدة أوينشأ نظام جديد, وهو ما يفرض علي أي دولة تريد أن تسهم في صنعه أن يكون لها مشروعا تتحرك من خلاله. وثاني هذه التحديات, هو الواقع الذي فرضه الدورالمتنامي للدول غير العربية (ايرانوتركيا) وهو أمرلا يمكن تجاهله، فايران استطاعت خلال العقود الماضية أن تعزز نفوذها ووجودها علي الأرض في أربع دول عربية، بدأت بلبنان من خلال حزب الله ثم العراق وسوريا، وأخيرا اليمن. وفي كل هذه الحالات أصبحت فاعلا أساسيا في الحكم، بل و في توجيه مجمل العملية السياسية. وكذلك فعلت تركيا بتحالفها مع قطر والتنظيم الدولي للاخوان بفروعه المنتشرة في كافة أرجاء المنطقة، ناهيك عن توظيف الطرفين للميلشيات المسلحة هنا وهناك، فالتوسع في الأدوار الاقليمية بات شديد الصلة بالتدخل المباشر في الشئون الداخلية للعديد من الدول التي فقدت سلطاتها المركزية . فهل سينتهي الأمر بالتوافق علي توزيع الحصص الاقليمية؟ أم بالتقسيم؟ أم بمزيد من الحروب والمواجهات المسلحة؟ أما ثالث هذه التحديات، فيرتبط ببناء التحالفات الاقليمية، فتطور العلاقات المصرية الروسية مع استمرار العلاقات الخاصة مع الولاياتالمتحدة قد يمضي في خط متوازن عندما لا يكون هناك صدام بين الطرفين الدوليين، ولكن إذا ما حدث ذلك في قضية من القضايا مثل الموقف من النظام السوري الذي تربطه بموسكو علاقات تحالف قوية، بعكس واشنطن التي يصعب التنبؤ بموقفها المتغير منه. فما هي السياسة التي ستتبعها مصر في هذه الحالة؟ بعبارة أخري إن الصراعات المفتوحة قد تستلزم في لحظة معينة خيارا سياسيا محددا يكون أقرب لمنطق «إما مع أو ضد» . وقريباً من هذا المنطق يأتي الحديث عن تحالف مصر الوثيق بدول الخليج وفي مقدمتها السعودية. صحيح أن العلاقات بين البلدين تعد علاقات استراتيجية بكثير من المعايير، إلا أن موقف كل دولة علي حدة من الدول الاقليمية الأخري أو من أي أزمة من الأزمات التي يشهدها الاقليم، قد تختلف أو تتغير وفقا لادراك كل منهما لمصلحتهما القومية وتقديرهما حجم المخاطر التي تهددهما، فالسعودية تري في تمدد إيران في المنطقة خطرا مباشرا علي أمنها القومي، خاصة أنها تسعي إلي تطويقها جنوبا وشرقا ومنافسة دورها في كل الملفات وقد لا يكون الأمر بنفس الحدة بالنسبة لمصر، ونفس الشيء ينسحب علي علاقة السعودية بتركيا، فمحاصرة التمدد الشيعي قد تدفع الرياض لمزيد من التنسيق مع أنقره رغم خصومة الأخيرة مع القاهرة سعيا لمحور «سني» أكثر تماسكا خاصة أن البلدين تربطهما علاقات وثيقة بواشنطن أي بحليف دولي واحد، فأمريكا هي الحليف الدولي الرئيسي للسعودية ربما دون منازع، وتركيا هي عضو في حلف «الناتو» العسكري الذي تتزعمه الولاياتالمتحدة. وهذا يعني في النهاية أنه سيكون لكل دولة هامش مستقل للحركة في إطارأي تحالف بين دولتين أو أكثر، وهو ما قد يؤثر علي إمكانية بناء قوة عسكرية إقليمية مشتركة مثلما هو مطروح حاليا تكون ركيزتها مصر وبعض دول الخليج، لأنها تحتاج إلي عقيدة سياسية مشتركة أو منظور موحد للمخاطر و التهديدات . إن إثارة مثل هذه التحديات والدخول في تفاصيلها لا يُشكك في صحة توجه السياسة الخارجية المصرية الحالية، فالدور المصري الآن أكثر حيوية رغم التعقيدات المحيطة به والتي ربما لم تعتدها هذه السياسة، فليست هناك «وصفة جاهزة» يمكن أن تطبق علي إطلاقها، بل سيكون لزاماً علي صانع السياسة ومتخذ القرار أن يضع أمامه أكثر من سيناريو لكل أزمة أو موقف علي حدة و خطط بديلة ومرونة كافية، للانتقال من خطة إلي أخري وفق ما تمليه الظروف المتغيرة إقليميا و دوليا، وهو أمر صعب ولكن أي تكلفة يتطلبها ستكون يقيناً أفضل بكثير من اللادور . لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى