لا يمل أبدا من أول السطر مهما تكررت المحاولة: «من لا يحب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر» هكذا جاء تنبيه الشاعر التونسي أبو قاسم الشابي. وبالتأكيد لا أحد منا يريد أن يحصر أو يحشر نفسه في الحفرة أو أن يقف أمام الطريق السد. والمشكلة ليست في الطريق السد بل فينا أو لدينا نحن عندما نقف أمامه طويلا ثم نتساءل : الى متى سيظل هذا الطريق مسدودا أو سيبقى هذا الباب مغلقا؟! يوم الاثنين الماضي كان اثنين آخر يمر بدون أن أقرأ كلمات «ديفيد كار» في «نيويورك تايمز». «ديفيد كار» كان قد اعتاد كل يوم اثنين من كل أسبوع أن يكتب تقريرا مطولا وتحليلا عميقا لأمر ما من أمور الصحافة والإعلام في أمريكا. «كار» توفى يوم 12 فبراير الماضي في مقر الصحيفة وهو في ال58 من عمره. وقيمة تقرير كار أو تحقيقه أو مقاله كانت انه يكتبه بأسلوب الباحث عن الأجوبة والساعي لمعرفة الحقيقة في الموضوع المثار أو المطروح. وبما أن «ديفيد كار» كان على علم ودراية بالمشهد الاعلامي/الصحفي والشخصيات والأحداث التي جرت من قبل وأيضا تلك التي تجري في الوقت الحالي فقد كان مقاله دائما شيقا ومفيدا وهو يحكي التفاصيل وهو يبدي شكه فيما يروى أو يقال له وهو يجتهد فيما يريد أن يتبينه ومن ثم يبينه للقارئ.»كار» كان يقرأ الحدث ويستمع للحديث باهتمام ووعى .. ويحاول أن يعرف كيف أن ما أستجد وطرأ في المشهد الاعلامي الأمريكي سوف يؤثر على المنتج ( بضم الميم وفتح التاء) وعلى دوره وتأثيره وتبعات كل هذا على المستهلك أو القارئ للصحيفة. «كار» كان مهموما بمصير الصحف ومضمونها ودقتها في الأداء المهني واحترامها للقارئ وأيضا جديتها في التعامل مع أصحاب القرار. وهو يتحدث عن الإعلام التليفزيونى العام الماضي قال: « ان التغيير قد يأتي بطيئا جدا الا أنه فيما بعد يحدث فجأة». و»كار» بحكم خبرته كان يدرس أيضا لطلبة الجامعة. ومن ضمن نصائحه لهم نقرأ تشجيعه للجميع لكى يعملوا كفريق ذاكرا «بينما الكتابة والتصوير والمونتاج غالبا أعمال تقوم بها أنت بمفردك الا أن العمل العظيم ينمو وسط المساحات التي توجد بين الناس.. ان تقييمي لك سوف يكون ليس فقط على الجهد الذي تبذله بل أيضا على قدرتك على اخراج الأفضل والأميز ممن هم حولك» ورحيل «ديفيد كار» حدث ومتابعو «الاعلام التقليدي» (من التليفزيون والصحافة والاذاعة) يشاهدون ويشهدون كيف أن شبكة «ان بي سي « التليفزيونية أوقفت الاعلامي البارز والشهير بريان ويليامز لمدة ستة أشهر بعد أن تكشف أو كشف المشاهدون أن «ويليامز» «فبرك» حكاية روى عنها عندما ذهب الى العراق عام 2003. الاعتراف بالخطأ (ولو بعد سنوات) والإعتذار عنه لم يكن كافيا بالطبع والشبكة من جانبها تواصل التحقيقات والاستجوابات والتي لا تخص فقط واقعة العراق بل تخص أحداثا أخرى شارك في تغطيتها والحديث عنها «بريان ويليامز». وجاءت مجلة «نيويوركر» الشهيرة لتحتفل بعيد ميلادها بعدد سنوي مميز و»تسع أغلفة» رسمها فنانو المجلة احتفالا بالعقود التسعة التى مرت وأيضا احتفاءا بما اشتهرت به المجلة من أغلفة تقول الكثير .. تثير القلاقل أحيانا وأحيانا أخرى «تجسد اللحظة التاريخية» أو «تعكس المزاج النفسي» الذي تعيشه أمريكا لدى صدور العدد. العدد الأول للمجلة صدر بتاريخ 21 فبراير 1925. والمجلة تتميز وتتمايز بمقالاتها المطولة ورسومها الكاريكاتورية وكتابها الموهوبين والمرموقين و»ذوقها الراقي والأخاذ» في التعامل مع الفنون والآداب والقصص الانسانية أينما كانت. والأهم أن هذه المجلة النخبة توزيعها تجاوز المليون نسخة أسبوعيا أغلبها اشتراكات.وفي العدد السنوي الجديد نجد كتابا عدة يتعرضون للعقود التسعة التي عاشتها المجلة. من هؤلاء نقرأ ل «روجر أنجل» وهو يكتب عن السنوات العشرة الأولى من عمر المجلة. أو العقد الممتد ما بين عامى 1925 و1935. و»أنجل» حسب تعريف المجلة بدأ يكتب لمجلة «نيويوركر» منذ عام 1944( أى منذ أكثر من سبعين عاما). وهو الحاصل هذا العام على الجائزة الوطنية للمجلات في مجال المقال والنقد. وأنجل بالمناسبة من مواليد 19 سبتمبر 1920 ويبلغ من العمر 94 عاما. ومجلة «نيويوركر» العريقة والمتميزة هذه يرأس تحريرها منذ عام 1998 ديفيد ريمنك (وهو الآن في ال 56 من عمره). وقد بدأ ريمنك حياته الصحفية في «واشنطن بوست» لمدة عشرسنوات ثم انتقل الى «نيويوركر» وهو معروف بأسلوبه المميز والجذاب في تناول الأحداث والشخصيات .. وقد أكد على قدرته في الحفاظ على مكانة المجلة ودورها وتأثيرها .. وضمان اعجاب القارئ بل «ادمانه» لقراءة كل عدد جديد من «نيويوركر». ويوم الاحتفال بعيد ميلاد «نيويوركر» (21 فبراير) احتفل الصحفي الكبير محمد العزبي بعيد ميلاده ال84. ولو كان الجو مشمسا لكان فضل الجلوس في البلكونه وأن يطل منها على الحياة سواء في حديقة الميريلاند أو المنطقة المحيطة بها . والعزبي من مواليد 1931 صاحب تاريخ طويل في الصحافة المصرية وفي صحيفة «الجمهورية» تحديدا. وعموده الأسبوعي «عيون مصرية» في «الجمهورية» كل يوم خميس يقدم المشهد المصري بكل تفاصيله وهمومه ومشاكله وأحلامه وآلامه ومآسيه. فعيون العزبي ( رغم مرور السنين) مازالت راغبة وقادرة على التقاط ما لا يراه الآخرون كما أن قلمه كعادته يتمتع بسلاسة في التعبير و»شقاوة» في التناول .. وجرأة في المواجهة وأخذ المواقف. وبالمناسبة لا يوجد يوم اتصلت به أو تواصلت معه على مدار العشرين السنة الماضية الا ووجدته «مصحصح ومتابع» و»مهموم ومنشغل بحال البلد وأحوال الصحافة والصحفيين وخاصة الأجيال الجديدة منهم» .. ودائما يسأل عن الاسم الجديد الذي ظهر أو عن كاتب المقال الذي لفت الانتباه أو المجلة التي بدأت تصدر. ومن لا يعرف كتابته الممتعة وأسلوبه الشيق فان كتاب «كناسة الصحف» سوف يعطيه الفرصة بلا شك للاقتراب منه والتعرف عن هذا الصحفي الانسان الأب المدرس .. الحبوب والحنون. في هذا الكتاب نقرأ عن «سنوات الحب والحبس» و»بعض ما عرفت.. ومن عرفت» و»ليالي السهر والسفر والسمر» وأيضا نقرأ:»الأعمدة الصحفية على قفا من يقرأ، ما شاء الله حاولت أن أحصيها فأخطأت الحساب، وأصابني الملل، بعد أن وصلت لأكثر من مائة عمود في اليوم الواحد بالصحف القومية غير المقالات.. وعشرات مثلها في الصحف الخاصة .. والجديد أن بعضها خصوصا للمستجدين أصبح يقاس بالمتر، مثل كبابجي «عين شمس» الذي يعلن عن كفتة بالمتر، ولو أنني لم أجربها فلن أستطيع هضمها!» ويكتب أيضا «أرجو أن تكون الثورة الضرورية في الاعلام هي العودة الى المهنية والاهتمام بالخبر والتحقيق والصورة، وكفانا تسويد صفحات.» ويضيف: «أخشى أن يكون حالنا قد وصل الى ما جاء في رسالة الكترونية تقول في وصف الاعلام المصري: عامل زى واحد أخرس بيقول لواحد أطرش ان فيه واحد أعمى شاف واحد مشلول بيجري ورا واحد أصلع بيشد في شعره» كما أن في يوم 21 فبراير أيضا ولكن في عام 1914 ولد الأخوان على أمين ومصطفى أمين في منزل خال والدتهما الزعيم سعد زغلول الذي عرف ببيت الأمة. و»مصطفى بك»هذه القامة والقيمة في تاريخ الصحافة المصرية له بصماته الكثيرة ليس فقط على صفحات الصحف بل في ذاكرة أجيال عاشت وشاركت معه في التجربة الصحفية وتعلمت منه الكثير. ولا شك أن صدور كتاب «مصطفى أمين» لأحمد عطية صالح بمشاركة الأستاذة صفية مصطفي أمين (ابنته) يعد اضافة هامة وضرورية لتسليط الأضواء من جديد على دوره المتميز وأستاذيته القديرة وأيضا على «الحقيقة الغائبة» في القبض عليه واتهامه ب»التخابر» ثم سنوات سجنه التسعة ( ما بين 1966 و1874). بالاضافة الى السنوات التي تلت الافراج عنه وكتابته لعمود فكرة بعد وفاة توأمه علي أمين يوم 3 أبريل 1976. وقد رحل مصطفى أمين عن دنيانا يوم 13 أبريل 1997.عمالقة ورواد الصحافة المصرية في حاجة ماسة الى اهتمام أكبر وأشمل وأعمق من مجرد تعليق صورهم أو اقامة تماثيل لهم. «يعنيهم أن نرعى كلماتهم «. الاهتمام باحياء تراثهم ومعرفة قيمتهم والحديث عنها للأجيال الجديدة مهمة وواجب «لمن يعنيهم هذا الأمر من قريب أو من بعيد». ومن المؤسف أن نسمع عندما نأتي بسيرة الكبار أن بعض «الصغار» يتساءلون «مين هو ..؟» والأسوأ بالطبع عندما يقول هولاء «الصغار» أنفسهم «يعني ايه ..؟». وفي «فكرة» لمصطفى أمين نقرأ «نحن عندما ندعو الشعب أن يساهم في الاصلاح لا ندعو الترزي ليجري عملية جراحية، ولا نطالب عالم الجيولوجيا أن يكتب قصصا للأطفال، ولا نشجع طالب المدرسة الابتدائية أن يضع برامج اصلاح الجامعة! الذي ندعو اليه أن يتولى كل واحد منا العمل الذي تخصص فيه.. أن يتعلم أكثر ليفيد أكثر..» مضيفا: «مشاكل مصر لا تحل «بالهمبكة» ولا يحلها «بتوع كله». فهي مشاكل جاء بها الجهل ويجب أن يذهب بها العلم.. خلقتها «الهمبكة» ويجب أن تقضي عليها الخبرة. ولدتها سياسة الارتجال. ويجب أن تزيلها سياسة التكنولوجيا. مشاكل مصر تحل بالدراسة والتخصص والبحث العميق» وفي «فكرة» أخرى:»الدنيا حلوة يا ابنتي! كل ما هناك أنك طرقت بعض الأبواب من قبيل الخطأ. ربما كان الساكن أصم فلم يسمع.ربما كان الجرس معطلا فلم يدق. ربما كان صاحب البيت غائبا فلم يفتح الباب. لا تلومي كل الناس على صمم فرد واحد، أو على عطل جرس أو على غياب صاحب البيت! تأكدي أن غدا يوم أجمل! سيكون مليئا بالناس الطيبين» وبما أننا اخترنا مفهوم «نقطة ومن أول السطر» في حياتنا وفي اعلامنا. علينا أن نؤمن ونعمل أيضا بأسلوب «فلنبدأ صفحة جديدة». وأكيد مللنا كلنا من هؤلاء الذين لا يكلون من تسويد صحفنا وحياتنا وأيضا نظرتنا لها.. وإحنا بصراحة «مش ناقصين» لا هم ولا أيضا أصحاب التصريحات الوردية و»كله تمام يا أفندم» و»أحسن من كده .. مفيش ومش ممكن!»