كأي حياة يمكن تخيلها بين حبيبين بعد النهاية السعيدة لفيلم مصري قديم، سارت حياة مخلص و وفاء على مدى عشرين سنة، بعد قصة حب ملتهبة التهابا أعانهما على الصمود و التصدي لكل المشكلات الصعبة في حياتهما. كان الوفاق و الوئام و الهدوء و السلام، هو عقد الزواج المعتمد بينهما، و الاعلان الحقيقي عن تلك الوحدة الفيدرالية الزوجية الذي لا يعرفه أي كائن غيرهما، و ذلك حتى ما بعد ظهيرة ذلك اليوم المشهود من أيام العام 1992 تحديدا.في بداية ذلك اليوم، بدأت الأمور عادية تماما، قبلة الصباح قبل خروج مخلص الى الدكان، وقبلها كان كوب الشاي باللبن مع بقسماطة من يد وفاء التي يدعو مخلص الله ألا يعدمها أبدا، و حتى المشهد الأخير بينهما كان طبيعيا أيضا، فعندما عاد مخلص عند الظهيرة ليتناول لقمة ويستريح قليلا قبل معاودة العمل في كي الملابس مرة أخرى، أقترحت وفاء عليه أن يمدد جسمه على السرير و يأخذ له تعسيلة حتى تنتهي من الطبيخ «لأن اللحم عجالي و محتاج نار زيادة حبتين». و هكذا فرد مخلص جسمه على السرير بعد خلع حذائه و جلباب الشغل و بقى بهدومه الداخلية، و رغم أن قدميه كانتا تؤلمانه بسبب طيلة الوقوف و العمل، فإن ذلك لم يمنعه من الدندنة بأغنية «دنيا غرورة وكذابة» وهي الأغنية التي ظلت عالقة بذهنه منذ بداية صباح اليوم، وكان فى أثناء ذلك يدلك ساقيه وقدميه براحتيه، في محاولة يائسة لاطفاء نار الدوالي المشتعلة بعروقهما. دخل في غفوة لذيذة، و قبلها كان يفكر في وفاء و راحة باله معها رغم حزنه الدائم لأنه لم يرزق بأبناء منها، و فكر قبل أن يأخذه النوم في البيت القديم الذي ورثه عن أبيه، و حتمية هدمه بعد وفاته، فأولاد عمه سوف يرثونه، و لطالما أقترحوا عليه بناء عمارة كبيرة بدلا منه، لكنه ظل يرفض دائما، فما حاجته للمال الكثير؟ ثم إن وفاء هي رأسماله الحقيقي و ثروته التي لا تعوض في هذا العالم. أفاق بعد وقت لا يدري كم كان، خيل له أنه سمع صوتا كصوت الرعد، ودويا كدوي الانفجار، ظل لفترة يحاول الفصل بين النوم و اليقظة، والحلم والعلم، جال ببصره مرارا في المكان، كان نصف الحجرة التي يعرف تفاصيلها بالكامل على مدى عشرين سنة، قد اختفى تقريبا: الدولاب الموضوع الى جوار السرير، والكنبة المستقرة الى الحائط المقابل له، و كذا التليفزيون وإناء الزهور الصناعية فوقه، والذي طالما تفرج على مسلسلاته بشغف جالسا الى جوار وفاء. أكتشف بدلا من ذلك أكواما من التراب الناعم والخشن حوله في كل مكان، وفوق السرير كذلك، وسرعان ما أدرك أنه مسربل بجلباب رمادي ترابي عوضا عن جلبابه الأبيض الناصع الذي خلعه قبل النوم. حاول تحريك قدميه في سبيل النهوض، لكنه فشل، تطلع الى السقف، كانت لمبته النيون الدائرية متشبثة بطرف سلك كهربائي، دار بعينيه في المكان محملقا بقوة و هو يزدرد ريقه وقد داخله رعب هائل لم يعتريه من قبل. تشهد على روحه، و قد أيقن أن منزله القديم الموروث أبا عن جد منذ عشرات السنين قد سقط فوق رأسه بالفعل. تذكر فجأة آخر مشهد له مع وفاء قبل دخوله الى حجرة النوم. وقفتها أمام حوض المطبخ بينما تغسل المواعين، قرصته الخفيفة لوركها، و خبطة يده المداعبة على مؤخرتها، و التي فجرت ضحكتها اللذيذة الشبيهة بكركرة المياه في قلل زمان. جن جنونه و بدأت الدموع تتجمع بعينيه و تتساقط على وجنتيه حتى وصلت شفتيه حاملة اليهما طعم التراب و الملح. تنبه و هو مرعوب الى أن سقف المطبخ لابد و أن يكون قد سقط عليها و جاب أجلها. ود أن يلطم خديه مؤكدا لنفسه ذلك، خصوصا أن أم حسين الجارة الساكنة فوق شقتهما و التي لا تدفع الأجرة له الا بالزور، تترك حنفية المطبخ تخر دوما حتى إن أجزاء من السقف قد باشت بالفعل و لم يعد الشجار يجدي معها بأي حال من الأحوال، حاول تحريك يديه ليلطم خديه بالفعل، لكنهما كانتا عاجزتين عن أية حركة، فصرخ بعزم ما فيه -وفاء ... وفاء ... وفاء. و سرعان ما غاب عن الوعي. آلاف من الناس لن ينسوا زلزال العام 1992 الذي فاجأهم وقت الظهيرة تقريبا، بعضهم ظل يتذكر ما جرى له خلاله من حوادث طريفة بمرح، البعض الآخر أرتسمت صوره ومشاهده لديه بالحزن و الأسى، فهناك من تهدم منزله وتشرد، و هناك من فقد عزيزا له خلال ذاك اليوم. بعض الناس فقدوا ممتلكاتهم بالكامل أو بعض أعضائهم الجسدية، لكن مخلص لا يتذكر من ذلك اليوم الا أمرا واحدا، وهو أنه فقد طعم الحياة حتى أنه ظل يصنف نفسه بعد ذلك بالعائش الميت، رغم أنه كان من المحظوظين الذين قدر لهم الخروج أحياء من تحت الأنقاض. كان قد دخل في غيبوبة لعدة ساعات بينما هو راقد على سريره، لكنه أفاق بعد فترة على أصوات معاول تدق، وصرخات بشرية هنا وهناك فزعق بكل ما أوتى من قوة مناديا حتى تنبه لوجوده رجال الدفاع المدني فأنقذوه. يتذكر مخلص ذلك اليوم ويتمنى بينه وبين نفسه قائلا «ليتني مت قبل هذا» أو «ليتني كنت نسيا منسيا»، فالحياة بعد هذا اليوم لم تعد تعني له أي شيء فهي بلا طعم، بلا هدف، بلا أمل، فقد انتهت أسطورة حياته الى الأبد عندما أخرجه المنقذون من تحت الأنقاض كان يصرخ على نحو هستيري و يردد وفاء ... وفاء، وخلال ذلك لم يكن برأسه الا مشهد واحد تلبسه و هو مشهد وفاء وقد وقفت أمام حوض المطبخ و السقف يسقط على رأسها. ظلت دموعه تنهمر و لم يكن وقتها مهتما لآلام ساقه الجريحة، و لا لخروجه أمام الناس – وهو الخجول – بملابسه الداخلية و التي حرصت وفاء عند شرائها له أن تساير الموضة فكانت حمراء تزينها مظلات زرقاء صغيرة كتلك الواقية من المطر و الشمس. لم يكن مهتما بكل أولئك البشر الذين تجمعوا للفرجة على الذين يتم انقاذهم و يصفقون كلما أتى المنقذون بانسان على قيد الحياة، فلقد كان مخلص يتمنى أمرا واحدا فقط، أمر واحد خلال كل ذلك الصخب و الضجيج و صوت صافرات الانقاذ وعربات الاسعاف الذي لا ينقطع، وهو أن يرى وفاء، يراها لمرة أخيرة في هذه الحياة، ثم يموت. أخيرا لبت السماء نداء أمانيه وتحققت المعجزة، فلقد لمحها بينما هم ينقلونه الى سيارة الاسعاف، فنادى عليها، فما كان منها الا أن نطت داخل السيارة البيضاء، وقبل أن يضعوه فيها، لتكون بجانبه. أمسكت بيده و تضرعت وهي تبكي الحمد لله يا مخلص أنك حي ترزق. لو كان جرى لك أي شيء لا قدر الله، كنت عشت بقية عمري بحسرتك، لأني جريت من لهوتي و خوفي و نسيت أن أصحيك من نومك. نزلت كلماتها عليه كنزول سقف المطبخ على رأسها كما تخيله. سألها بصوت مرتعش: عاوز أسمع كلامك مرة ثانية قولي .. يا وفاء أفزعها هدوءه المفاجئ، لوهلة ظنت أنه أصيب بالصمم كنوع من الصدمة الناتجة عما جرى له، فكلامها كان واضحا جدا و يمكن سماعه بسهولة. قالت: قلت أتلهيت و جريت من المطبخ و نسيت أصحيك من النوم. ظل صامتا، لا تحيد نظراته عن وجها، ذلك الوجه الجميل الذي طالما عشقه أكثر من أي عشق كان في كل الأغاني و المواويل التي يحبها و يحفظها عن ظهر قلب و طالما غناها و هو يكوي ملابس الناس. تذكر قصة حبهما التي هي برأيه أقوى من قصة حب حسن و نعيمة، و أعنف من حكاية عزيزة مع يونس. تذكر طرد أبيه له من البيت، عندما طلب هو منه أن يزوجها له، و قول الأب له: مستحيل تكون أم عيالك و الدنيا عارفة أنك ماش معها. شرب وفاء لسم الفئران، لما عرفت رفض أبيه، و كذا عدم موافقة أهلها لأنه مكوجي و هم موظفون، لكن الله ستر و لم تمت وفاء لأن سم الفئران كان مغشوشا كأي شيء آخر في السوق بسبب أن الحكومة كانت قد بدأت ترفع يدها عن الأمور و تركت البلد سداح مداح للسرقة و النهب. ثم وفاة ؟أبيه المفاجئة، و انتظاره سنتين حتى تتزوج أخت وفاء الصغرى من خريج معهد لاسلكي، و حتى لا يتراجع الرجل عن الزواج بسبب أن أختها زوجها مكوجي. همس و هو يبتسم ابتسامة غريبة بينما تحول عيناه وهو ما يفعله عادة عندما يكون قد قرر أمرا: أنت طالق بالثلاثة يا وفاء. وظلت ابتسامته تتسع مع تصاعد صافرات سيارات الانقاذ، وكان يفكر في أنه لم يطلقها بسبب عدم الانجاب ولا بسبب مضغها اللبان وأثناء مضاجعته لها، ولا بسبب طبيخها الذي هو ناقص أو زائد ملح دائما، ولكن بسبب لم يخطر على باله أبدا و هو الزلزال.