تراهم كثيرا فى الشوارع ، لكن هل أتيحت لك رؤية «ميت» منذ أسابيع على رخام المشرحة. ذقنه مشوكة كأنما كانت تنمو سرا. وجهه ممصوص صدئ بطول النقع فى الفورمالين. حول رسغه أسورة مدون عليها اسم عشوائى وعمر أصغر بكثير مما يبدو عليه وجهه. فإذا حركت إحدى هذه الجثث رأيت ظهره مبططا مستويا. لا هوية لأحد منهم رجلا كان أم امرأة. هم إما تراحيلة مغتربون، أو من العشوائيات لا يسأل أحد عن غيابهم. باختصار هم الساقطون من قعر الوجود الإنسانى . مثلهم أيضا تجده منسيا فى السجن . هل الحثالة والهامشيون والمنفيون من الوجود غير هؤلاء ؟ هل لهؤلاء زمن أو ذاكرة ؟مثلهم تخلو حياتهم من أيه أسئلة، ليس لهم غير وجود لحظي، وانفعالات قد تذهب بهم أى مذهب. مرفوضون ولا مرجعية لديهم لما يعرفه غيرهم باسم الضمير الاجتماعي، أقوياء مثل خلية بدائية ثنائية النواة، ضعاف كالكلاب الضالة، حيث لا مكان ولا زمان ولا حلم سوى ما تجئ به ضلالات المخدرات، أو تختص به الجينات. . شيء من الوسامة أو الجمال أو الذكاء يمثل طوق نجاة للانتقال الطبقي.. وامتلاك لحيثية يقدمون بها خدمة للآخرين.. أى الافلات من الصدفة الى صدفة أخرى بفضل الجينات. سألت يوما أ.ع دكتور الاقتصاد وأحد مسئولى منظمة العفو الدولية عن بلده فى تونس. قال أنا من الجنوب باختصار من القبائل الفقيرة التى تورد الخدم والعاهرات الى تونس العاصمة . عود الى الموضوع هم خبراء فى الاستعداد لما ينزل بهم من مصائب. خالون من الأمراض الاجتماعية للطبقات. ليس لديهم ما نسميه الصدق أو الكذب. خطابهم الثقافى يمتزج فيه الخيال بالواقع. يائسون لا يعرفون أنهم يائسون. كالفنانين من زاوية امتزاج الحقيقة بالخيال، تلك التى تضعهم على حافة الوجود. لذا يمثلون مادة خصبة للفن دائما. بوجودهم فى تلك المساحة الملتبسة دائما بين الحياة والعدم. هذا البرزخ الذى لا وجود فيه لزمان أو لمكان. أو لممنوعات ومسموحات. قد يقدم أحدهم على صنع نظرية للتمرد على أوضاع ، هى فى حاجة الى الوعى بها ابتداء.. منفيون فى كل البلاد.. فهم الغجر والهيبيز والصعاليك وأطفال الشوارع، واليانكى والصيع والحثالة. رصيدهم من الألم هو نفس رصيدهم من الحياة. أنتجت عنهم سينما كاملة وأدب عريض فى العقود الأخيرة. تناولت مدن الصفيح والمخدرات واصطياد أطفال الشوارع بالخرطوش، وكتب عنهم منذ بؤساء فيكتور هوجو، جارسيا ماركيز (الضحية)، وجورج أمادو (فرسان الرمال)، ومحمد شكرى (الخبز الحافي) وتناولهم خيرى شلبى ومكاوى سعيد والفرنسى جان جينيه والإسبانى خوان غويتسيلو. وقال فيهم ولهم شعرا أحمد فؤاد نجم وابن عروس وبيرم وعبد الحميد الديب. أى قدمهم فنيا من ليسوا بحثالة ولا هاميشين.
خطابهم الثقافى ضد الثقافة الثقافة فى أحد تعريفاتها الكثيرة هى سعى الانسان الى تحويل الأشياء الموجودة حوله مبعثرة ومنفصلة الى نسق أو منظومة، ليتمكن من السيطرة عليها. وتلك عمليه وعى وإدراك. بينما نحن فى حالتنا بصدد عشوائية. يبدو فيها العالم مفككا خاليا من المعني.. باختصار هو عبث.. فهم منفيون خارج أى نسق. عموما فخطاب هؤلاء المنفيين اجتماعيا ليس خطابا بدائيا. فهو حتى لا يعنى بأن يوثق نفسه أو يسجل آثاره كالخطاب البدائى مثلا. خطاب غير تراكمى لا نمو لديه. يمتلئ بالضعف فى مواجهة السلطة والطبقات والمجتمع بمؤسساته. يجهر بالمظلومية بصريح الشكوى من تصاريف (القدر). خطاب مغلق على نفسه، مما يجعله ذا طبيعة دينية – بالمعنى السائد – رغم عدم ملامسته لأى دين. فهو يدلل على مصداقيته من داخله. كأنما يكفيه أن يقال ليصبح صادقا. يملك من روح الفن خاصية الانفعال بالألم بصورة ساذجة أو حتى سطحية. لذلك اذا أنهك الشخص بطول صدامه مع المجتمع، فانه يستغنى عن الحياة، منتميا الى الصوفية والزهد كما يعرفهما العامة. فى هذه الحالة فقط يصبح قادرا على أن ينتج فنا.. بالتحديد غناء، خاصة حين تضمحل القدرة الجنسية له. أهم ما فى الخطاب المفكك واليائس ، أنه ينطوى على طاقة تدميرية هائلة. لذا يعد رصيدا لكل. الاتجاهات المتمردة، يمينها ويسارها. من طريف ما ذكره على باشا ابراهيم – أول عميد مصرى لكلية طب قصر العينى – أنه أثناء ثورة 1919 سأل أحد الذين جاءوا وكان مصابا بالرصاص. • أنت بتشتغل ايه؟ قال الشاب.. صايع. سأله.. أنت منين؟ قال الشاب.. أنا ابن توحيدة الانجليزية. وكانت توحيدة أشهر قوادة آنذاك. غير أنها بعد مصرع ابنها هيأت حفلا للجنود الانجليز قتلت فيه أغلبهم.
ثلاثون عاما من تهميش المصريين . كثيرا ما يلفت النظر كثرة ما تناوله النخبويون عن المهمشين فى ابداعاتهم فى العقود الأخيرة خصوصا الرواية والسينما، حتى صارت موضوعا أليفا ومطروقا وله جاذبية. بعد ما جعلت الأعوام الثلاثون للهاميشين امتدادا اجتماعيا واسعا كسمات نفسية، بعد جعلها كذلك اقتصاديا. أى شحن عهد مبارك الجميع بطاقة مضادة جوهرها التدمير ونشر الفساد وتركيز الثروة فى حوزة شريحة من طبقة. وفى الجانب الثقافى لم يكن هذا ممكنا الا فى مناخ اللاقانون. ورافق كل ذلك حضور قوى للوهابية. هنا أضيف (الوعي) الى المهمشين. صار المجتمع عشوائيا واعيا بانهياره.. وهنا فقط كانت الثورة ممكنة. بالمناسبة كلمه حثالة وهامشيين ليست شتمة وانما وصف لحالة يمكن أن تسميها اليوم «الحثالة الواعية. أمد عهد مبارك الجميع بطاقة معادية للحياة. مما جعل من هذه العشوائية وقودا جيدا وأرضا خصبة لحركات الدين السياسي.. القليل من الافكار والكثير من الطاقة المعادية للحياة.. مثلا كأن يتم تكفير الجميع بعدة جمل، وكأن يتم تداول طفلة جنسيا فيما بين (المؤمنين).. حدث هذا خلال اعتصام رابعة، مثلما فعلته داعش، ويصبو اليه سلفيو اليوم، ويمثل أحد شواغلهم. فى مناخ كهذا لم يكن غريبا أن تصاب اللغة ايضا بالعشوائية فتسمع كلاما شبه الكلام.. ومعانى شبه المقصود جرى نحت لغة جديدة يفهمها المتعاملون بها. المثل الدال على ذلك هو لغة محمود عبد العزيز فى فيلم (الكيف).. وهى لغة يتساوى فيها شباب الجامعات الخاصة والحكومية، شباب النوادى والحارات، والقصد أن استخدامها لم يعد قصرا على الأحياء العشوائية بل امتد الى جيلين أو أكثر يعلنون بها تمردهم على السائد بما فيه اللغة.. بل امتد أيضا الى الغناء.. غناء المطربين الجدد. لغة انفصلت عن القاموس والعامية المعروفة.. ولاحظ العبارات السائدة على الفيس بوك وتوتير... الخ وطرق التعبير عن النفس . ثم القضاء على الطبقة المتوسطة وهى من يمسك بالمجتمع . بعد ما صار هناك الإثراء بالصدفة والإفقار بالصدفة. وصار المجتمع كتلتين، كتلة صغيرة عدديا تملك الثروة أيا كان مصدرها. وأغلبية تكابد ألا تصبح فاسدة أو ليست لديها امكانية لذلك. الفلوس هى لغتهما المعتمدة بما يصاحبها من تشيؤ واستهلاك للحياة ودونية . وعلى الجانبين تجد نفس النوعية من البشر. أكاديميين، وموظفين كبارا وبلا عملا وتجارا ووزراء وأفاقين ومهنيين.. الخ. هذا الوضع أدخل الجميع فى الحالة الثقافية للحثالة والهامشيين . من حيث الاغتراب واللاأمان والتشيؤ. حالة تحللت اليها الطبقات الاجتماعية ومعها قيم كل طبقة. وهى حالة توجد حيث يوجد الاقتصاد الريعى، حيث لا إنتاج. وطبعا يجئ اللا انتماء كنتيجة طبيعية. فلا شيء يمكن الانتماء اليه. يمكن فهم الثلاثين عاما بتأمل الغناء السائد. وفق ما قاله ابن خلدون من أنه أول ما يزدهر من العمران وأول ما يفسد بفساده. حيث يسود التفكك وعياء التعبير والاعلاء من شأن الغرائز فى الغناء الشعبى والرسمي. يسود استهلاك الآخر وليس التواصل معه. أكثر الغناء صار هفلطة ملحنة تقلد غناء قديما.. أو استنساخات فقيرة عما كان سائدا أيام كانت هناك دولة. ثمة واقعة طريفة ، فقد سألت المذيعة أحمد عدوية عن غناء (اليومين دول) ذاكرة له أشهر الأسماء. قال كلهم بيغنوا أغنية واحدة. ألا ترى مثلى أن كل الأنشطة الانسانية مترابطة. السياسة بالاقتصاد بالغناء بالحب بالدين؟ وأن غياب الدولة والقانون لهما أثر فادح!