أن تكتشف فجأة أن ابنك ينتمي إلى جماعة إرهابية متطرفة، هي كارثة قد لا يدركها البعض إلا بعد فوات الأوان، كأن يكفر الابن اباه وأمه أو يهجر أسرته ووطنه، أو تأتي قوات الشرطة بحثا عن ابنه بسبب قيامه بأعمال إرهابية أو المشاركة في مظاهرات عنف. علماء الدين وخبراء النفس والاجتماع يؤكدون أن كثيرا من الآباء لا يعلمون بتطرف أو انحراف أبنائهم إلا بعد فوات الأوان, ويظهر ذلك من خلال الغلظة في الحديث والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى تكفير الأب والأم. ويقدمون روشتة للآباء للكشف عن سلوك أبنائهم وحمايتهم من مخاطر التطرف الديني أو الأخلاقي. وأكد العلماء أن الأسرة التي تمثل النواة الأولى في علاقة الفرد بالحياة الاجتماعية تعتبر خط الدفاع الأول ضد الانحراف وهي المصدر الأول للقيم. كما حذروا من الاحتكاك بشباب متطرف والذي يساهم في استدراج الأبناء نحو الوقوع فريسة لهذا الفكر، وتضافر جهود جميع مؤسسات الدولة في توطين الانتماء الوطني في نفوس الأبناء للحيلولة دون استغلالهم كأدوات تحركها قوى إرهابية تحاول النيل من مقدرات الوطن، ومراجعة البرامج الإعلامية والمقررات التعليمية ومدى سلامتها من الأفكار والفتاوى المتطرفة مع تفعيل منع الكتب والنشرات المشبوهة.
ويقول الدكتور محسن خضر أستاذ ورئيس قسم أصول التربية بجامعة عين شمس: لقد تقدم التطرف حينما تراجعت التربية في مصر, حيث شهدت العقود الأربعة الأخيرة منذ الانفتاح الاقتصادي تراجع وتآكل الطبقة الوسطى التى هى مستودع العقلانية فى المجتمع وضابطة للقيم, وبالتالى اختلت المنظومة القيمية التى تكون الطبقة الوسطى التي تمثل ركيزة استقرار المجتمع، ولأن طرق تدريس الأعداد الكبيرة التى أفرزتها سياسات مجانية التعليم والتعليم الجماهيرى لم تتطور فسادت آلية التلقين, وثقافة الحفظ, وغابت ثقافة الحوار, ومع هذه الأزمة الاقتصادية تراجع دور الأب فى التنشئة الاجتماعية مقابل قوة شبكات التواصل الاجتماعي وثقافة الصورة؛ لأن كثيرا من الآباء إما مسافرون وإما يعملون فى مهن إضافية لمواجهة ضغوط الحياة والمعيشة. ومع تقلص دور المدرسة والجامعة فى التنشئة دخل على الخط أطراف آخرون وأصبح شبابنا أسيرا إما للثقافة الاستهلاكية والعلاقات غير المشروعة وإما فى قبضة اللامبالاة والسلبية, خاصة مع غياب مساحات المشاركة السياسية التى تستوعب الشباب وإما الارتماء فى أحضان الخلاص الدينى سواء كان سلفيا أو إخوانيا أو راديكاليا. فى ظل هذه الخريطة من الممكن أن يحدث استقطاب ما بين بروز ظواهر مثل الإلحاد أو الانتحار أو العمالة للعدو أو في المقابل صعود مناخ الإقصاء والتشدد الدينى التي نفاجأ بها وكأنها حدثت فجأة لكنها حصاد للتراكمات السابق ذكرها. وأضاف: في التعليم تكمن المشكلة والحل, ومن ثم يجب علينا أن نحدث ثورة حقيقية فى التعليم الذي يمثل أهم ساحات التخلف والهزيمة فى المجتمع المصري والانتقال إلى نظم تعليمية جديدة تقوم على الحوار والإبداع والنقد والسؤال, والتقليل من سطوة التعليم المعبأ والمعلب والتلقينى, ولا أمل في أى نهج يواجه ظاهرة الإرهاب السياسى أو التطرف الدينى وخطاب التكفير إلا بتغيير العقلية لدى ملايين المتعلمين من عقلية تبعية إلى عقلية نقدية فعالة, وإعداد جديد لعقلية المعلم ومعلم المعلم, فالعقلية التلقينية للمعلمين تجهض أى محاولة للتغيير الحقيقي فى مصر, فالتعليم أداة للتحرر وليس العكس كما يحدث الآن. طاعة عمياء وتشير الدكتورة سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس إلى أن انضمام الشباب إلى أي جماعات متطرفة يكون في الخفاء دون علم الأهل؛ لأن الشاب إذا أخبر أهله بذلك سيجبرونه على الخروج من هذه الجماعات لأنهم يريدون الطاعة العمياء للشباب ويتم تشكيله وتغيير أفكاره وآرائه وفقا لما يرسخونه فى عقله وذهنه, ويساعدهم في ذلك صغر سن الشباب وقلة الخبرة مما يجعلهم ينجرفون لهؤلاء دون وعى أو تفكير, كما أن من طرق الجماعات المتطرفة لجذب الشباب تحقيق أحلام وتطلعات الشباب مثل الحصول على وظيفة أو السفر لأوروبا, وذلك يعد ثمنا للانضمام إليهم, وهذا هو الإرهاب في حد ذاته؛ لأنهم يرهبون من يستقطبونه ويخوفونه حتى ينضم إليهم ويستجيب لأوامرهم ويصبح أسيرا لأفعالهم وأوامرهم ويكون انتماؤه الأول لهم, كما أنهم يستعملونه في الإرهاب ويصورون لهم الجنة بأنها فعل أوامرهم وطاعتهم لكنها جنة مزيفة؛ لأنها لا تقوم على مبادئ الله فى كل الأديان السماوية. العناية والرعاية .. ضرورة ويوضح الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أن التطرف فى سلوك الأبناء والبنات ليس في المظهر فقط وإنما فى الأفكار والرؤى عند مناقشة الأمور المختلفة, وهذا يبدو عند إثارة قضية معينة على نطاق الأسرة يمكن أن يثيرها رب الأسرة سواء فى الأمور العقدية أو فى النواحى العامة فى المجتمع أو فى مشاهدة الفضائيات أو في رأى الأبناء أو البنات فى مجريات الأمور فى المجتمع, وهنا يبدو عند إلقاء رب الأسرة سؤالا متضمنا ناحية من النواحى السابقة إلى أى مدى وصل توجه ابنه أو ابنته؟. يضاف إلى هذا سؤال الأب أو الأم عن أخلاق من يصاحب أبناؤهم. هذا بالإضافة إلى القراءات الخاصة بالأبناء ومن يحادثونهم عبر الشبكة العالمية ليعرف ميل الأولاد واتجاهاتهم الفكرية سواء كان هذا الاتجاه محمودا أو مذموما, ولا أعتقد فى زمن كزمننا هذا يلهث الناس فيه وراء ماديات الحياة ولا يفيقون من ذلك أن يكون بوسعهم فعل مطلب من هذه المطالب بالكشف المبكر عن انحراف أولادهم ذكورا أو إناثا, وذلك لأن مطالب الحياة لا ترحم؛ ولذا فإن عنصر المفاجأة يكون دائما هو الذي يغلب على علاقة الآباء بالأبناء, لكن تظل هذه الأمور مطلبا ضروريا وملحا, وذلك حفاظا على حياة ومستقبل أولادنا. علامات وبوادر ويرى الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم عميد كلية أصول الدين بأسيوط أن هناك أشياء إذا راقبها الإنسان عرف ان ابنه قد اتجه إلى التطرف, وهى أشياء يشترك فيها كل المتطرفين, وأول هذه الأشياء التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأى الآخر, ومن علامة هذا الأمر اجتهادهم في المسائل مع قلة البضاعة الفقهية فتجد هذا الإنسان يفتى في مسألة لا يعلم عنها شيئا ولم يدرسها دراسة شرعية, ويقولون عن علماء السلف والخلف هم رجال ونحن رجال, وأيضا التزام التشدد فى الدين مع قيام موجبات التيسير فمتى رأيت ولدك قد تشدد فى الدين دائما ولا يريد أن ييسر على الناس أمورهم فاعلم أنه قد توجه إلى التطرف؛ لأن الدين الإسلامي يسر لا عسر لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم »يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا« كما أن الله سبحانه وتعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. ومن علامة هذا الأمر أيضا أن المتطرف يحاسب الناس على النوافل والسنن كأنها فرائض, وهذا أمر نشاهده في كل متطرف وهو من الأشياء التي تصد جماهير الناس عن الاستجابة لهؤلاء المتطرفين, ومن علامات التطرف ايضا الغلظة في التعامل والخشونة في الأسلوب والفظاظة فى دعوة الآخرين إلى الخير, وهذا قاسم مشترك بينهم ثم إن هذا يخالف بداهة قول الله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). وشدد د.مختار على أن الابتعاد عن الأشياء السابق ذكرها هو الحد الفاصل بين أن يكون الإنسان ملتزما من ناحية الدين أو أن يكون متطرفا, ونضيف إلى ذلك مسألة الوقوع فى تكفير الآخرين, فإذا وصل ولدك إلى حد تكفير الناس فاعلم أنه قد انغمس فى التطرف, ويجب على الأب أن يفرغ نفسه لكى يخلص ولده من براثن هذا الغول, ويمكن أن نحمى أبناءنا من غول التطرف بمراقبة سلوك الأبناء قبل أن يصلوا إلى مثل هذه المراحل, وأيضا مراقبتهم على مواقع التواصل الاجتماعي حتى نجنبهم الانخراط في هذا الأمر, وأخيرا ملاحظة أصدقاء الأبناء حتى لا يجرهم أصدقاء السوء إلى هاوية التطرف وتكفير الناس. كلكم راع ويؤكد الدكتور سعيد عامر أمين عام الدعوة بمجمع البحوث الإسلامية: وأوجب الإسلام على الآباء أن يقوموا بالرعاية والتعليم والتربية والتهذيب وترسيخ قيم الإسلام الصحيح والأخلاق السامية, وهم أمانة فى أعناق الآباء والأمهات لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم »كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته« فالأب راع ومسئول عن رعيته والزوجة راعية وهى مسئولة في بيت زوجها, وقال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) والوالد إذا أهمل فى جانب الرعاية والتربية والتعليم لاشك أن النتيجة هى تطرف الأبناء, كما أن الانحراف الأخلاقى والتطرف الدينى كلاهما إفساد في الأرض وخروج عن المنهج الوسطى القويم فيجب على الوالدين تفقد حال أبنائهما داخل البيت وخارجه, وأن يراقبا أصحابه ليتخيرا له الأصحاب العدول أصحاب المنهج الوسطى لا إفراط ولا تفريط ولا انحراف ولا تطرف, وأن من يصاحب أولاده يقيم لهم حوارا بطريق غير مباشر خاصة في قضايا العصر فهو يحمى ابناءه شر الفتن والمخاطر, فإن وجد الأب عند ابنائه الفكر الوسطى المستنير فيحاول أن ينميه عند أولاده, وان رأى بوادر الشذوذ والتطرف فليسارع فى علاجه والفكر يعالج بالفكر، ويتخير له من أهل العلم الثقات ليتكلم معه ويناقشه بهدوء وبرحمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«وما كان اللين فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه» فهذا هو المنهج الأول فى إصلاح وإنقاذ الأبناء من براثن الانحراف والتطرف, فعلى الأب أن يعرف أين يصلى ابنه؟ وفي أى مسجد؟ ولمن يستمع من أهل العلم ولمن يقرأ من أهل العلم؟ فهذا أمر مهم, وعليه أن يسأل أهل العلم الثقات عن الكتب التى يقرأها الأولاد إن لم يكن على علم بها, فمن خلال الأصحاب والقراءة والاستماع نحصن أبناءنا وننجيهم من الانخراط في الانحراف الأخلاقي أو التطرف الدينى, ونأخذ بأيديهم إلى العلم الصحيح والنافع الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة, وينجيه من العلم الذي فيه تطرف وشذوذ ويصاحبه عنف وسفك للدماء وتكفير الناس.