البنية الأساسية لمدارسنا وجامعاتنا لا تسر عدوا ولا حبيبا. النظرة الأولية تؤكد الحاجة الملحة إلى بناء وتجهيز مدارس وكليات جديدة وترميم الأبنية التعليمية القائمة، وهى حاجة يؤكدها الواقع المعيش من تكدس مدرجات الكليات بالجامعات الحكومية، وتكدس الفصول فى المدارس، والعمل على فترتين دراسيتين أو أكثر، فضلا عن معاناة العديد من القرى فى الأقاليم من أن أقرب مدرسة متاحة تقع على بعد عدة كيلومترات. لا توجد بالطبع أى أرقام رسمية منشورة عن عدد المدارس الآيلة للسقوط وتلك التى تحتاج إلى ترميم، أو بيانات عن مستوى تجهيزات المعامل فى المدارس والكليات العملية، و مدى توافر التجهيزات والخامات اللازمة فى المدارس الصناعية. ومع ذلك فإن هناك بعض المؤشرات التى يمكن أن توضح مدى الحاجة لزيادة الإنفاق على بناء وتجهيز المدارس. لن نتحدث عن الأخبار التى تطالعنا بها الصحف من وقت لآخر عن سقوط حائط مدرسة على تلاميذ صغار أو رصد لحالات مبان متداعية ودورات مياه غير آدمية أو غير موجودة أصلا. سنتحدث عن الأرقام الرسمية لوزارة التربية والتعليم التى تؤكد أن المدارس التى تعمل فترتين أو أكثر تمثل نحو 22% من المدارس الثانوية التجارية ونحو 19% من المدارس الثانوية الزراعية وأكثر من 35% من المدارس الثانوية الصناعية. البيانات الرسمية لوزارة التربية والتعليم تؤكد أيضا أن كثافة الفصل فى المدارس الحكومية تدور فى المتوسط حول 43 تلميذا فى القاهرة و 47 تلميذا فى الإسكندرية وتصل إلى أكثر من 52 تلميذا فى الفيوم. أما الواقع المعيش فيؤكد أن كثافة الفصل تصل فى العديد من المدارس الحكومية إلى 80 تلميذا وأن هناك مدارس يجلس فيها التلاميذ على الأرض! بناء وترميم وتجهيز المدارس يتطلب إنفاقا ضخما، تقول لنا الحكومة إنها لا تملك الموارد اللازمة لتحقيقه. الحل الذى تطرحه الحكومة هو اللجوء للقطاع الخاص. الاستراتيجية المعلنة لوزارة التربية والتعليم والمطروحة على موقعها الإلكترونى تقول إنها تعتمد فى تمويل خطتها لتطوير المدارس الحكومية على مجموعة من المصادر الرئيسية تتمثل فى الدولة، والمساهمات المجتمعية، والقطاع الخاص، والجهات المانحة. يتحدث الموقع الإلكترونى للوزارة عن مبادرات من بعض منظمات المجتمع المدنى والدول العربية لتمويل بناء عدد معتبر من المدارس. وعلى صعيد آخر تعلن الوحدة المركزية للمشاركة بوزارة المالية على موقعها الإلكترونى عن إنشاء 1000 مدرسة حكومية يتم تمويلها وفقا لآلية المشاركة بين القطاعين العام والخاص. طبعا حينما تكون هناك مبادرات من المجتمع المدنى لبناء وتجهيز المدارس الحكومية فلا يسعنا إلا أن نحييها ونؤكد أنها تمثل استمرارا لدور تاريخى محل كل تقدير واحترام لمساهمة العمل الأهلى فى دعم التعليم. ومن منا ينسى أن الأراضى التى أقيمت عليها كل من جامعة القاهرة وكلية الطب بجامعة عين شمس كانت تبرعا من اثنتين من نساء مصر؟ وحتى عندما تعلن الحكومة أنها ستلجأ للقطاع الخاص للقيام بالاستثمارات اللازمة لبناء وتجهيز المدارس الحكومية كحل سريع لمواجهة مشكلة نقص موارد الدولة، نقول للضرورة أحكام، طالما أن تلك المدارس ستسلم فى النهاية للدولة، التى تظل مسئولة عن القيام بدورها الأصيل فى توفير الخدمة التعليمية لكل أبنائنا بمستوى مرتفع من الجودة والكفاءة، كما نص عليه الدستور. ولكن الأمر يختلف حينما تعلن الحكومة أنها قد أدرجت قطاع التعليم ضمن القطاعات المطروحة على المستثمرين المحليين والأجانب فى المؤتمر الاقتصادى المقرر عقده فى مارس المقبل. المشاركة فى بناء المدارس وتجهيزها ثم تسليمها للحكومة شيء وإقامة المزيد من المشروعات التعليمية الربحية شيء آخر. يكفينا ما لدينا من مشروعات ربحية «تحت مسمى مدارس» تستنزف دخول الأسرة المصرية. مصروفات التعليم فى تلك المدارس صارت تتجاوز قدرات الطبقة المتوسطة. هل يعقل أن تكلفة إلحاق طفل بالحضانة أصبحت تدور حول عشرة آلاف جنيه؟ لن نتحدث عن المبالغ الخيالية التى يتم دفعها كمصروفات فى المدارس «الانترناشيونال» التى يلتحق بها أبناء الشريحة العليا من أغنياء المجتمع، فهؤلاء قادرون على دفع تلك المبالغ وأكثر. لكن تلك الشريحة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من المواطنين، ولا أتصور أن همنا الأول هو توفير المزيد من المدارس«الفاخرة» ونظم التعليم الدولية لأبنائهم. لا أتصور أننا نريد نشر المزيد من الاغتراب فى مدارس يحتفل فيها أبناؤنا بعيد «الهالوين» و«عيد الشكر» وتتحدد مقرراتهم التعليمية فى هذه الدولة الأجنبية أو تلك، أو مدارس تكرس الاتجاهات والأفكار الظلامية وتخرج لنا من يكفرنا ويكفر بالوطن. ثم لمن ستتوجه تلك المدارس الربحية؟ هل المطلوب المزيد من الاستنزاف لدخول الطبقة المتوسطة؟ هل المطلوب قصر التعليم وفرص العمل الجيدة على أبناء القادرين؟ هل نحن فى حاجة لمزيد من الاستقطاب يصبح فيه خريجو المدارس والجامعات الحكومية هم أبناء «البطة السوداء» الذين ينضمون لجيش المتعطلين، وتستأثر القلة المحظوظة من أبناء القادرين على الوظائف والدخول العالية؟ نقول للحكومة إننا نثمن ونقدر كل مبادرة من مؤسسات المجتمع المدنى وكل مساعدة خارجية لبناء وتجهيز المدارس الحكومية، إلا أننا نرفض فتح قطاع التعليم للاستثمار الأجنبى ونرفض تحويل العملية التعليمية إلى مجرد مشروعات ربحية. نرفض أن يتم تشكيل عقول ووجدان وانتماءات أبنائنا وفقا لأجندات خارجية. نحن نتمسك بما نص عليه دستورنا من التزام الدولة بمجانية التعليم وضمان توفيره وفقا لمعايير الجودة العالمية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى