لعل من أبرز مواد الدستور الجديد التى لاقت استحسانا وارتياحا كبيرا من جماهير الشعب المصري، المواد المتعلقة بالتعليم. حيث نصت تلك المواد على إلزام الدولة بتخصيص نسبة لا تقل عن 7% من الناتج القومى الإجمالى للإنفاق الحكومى على التعليم، بواقع 4% للتعليم قبل الجامعي، و 2% للتعليم الجامعى و1% للبحث العلمي، على أن تتصاعد تلك النسب تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، مع تأكيد التزام الدولة بمجانية التعليم وضمان توفيره بمراحله ومؤسساته المختلفة وفقا لمعايير الجودة العالمية. ومن المؤكد أننا كشعب نتمسك بتطبيق الدستور الذى وافقنا عليه، ولن نسمح لأى حكومة مقبلة بأن تخفض الإنفاق على التعليم عن الاستحقاقات التى نص عليها ذلك الدستور. ومن المؤكد أيضا أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بتدبير الموارد اللازمة لتمويل ذلك الإنفاق، ولكنه يتعلق أيضا وبالضرورة بتحديد أولويات الإنفاق على النحو الذى يحقق أكبر عائد مجتمعي. النظرة الأولية تؤكد الحاجة الملحة إلى زيادة الإنفاق على الاستثمار فى بناء وتجهيز مدارس وكليات جديدة وترميم الأبنية التعليمية القائمة والمدارس الآيلة للسقوط، وتوفير التجهيزات والخامات اللازمة للمعامل فى المدارس والكليات العملية وورش المدارس والمعاهد الصناعية، وهى حاجة يؤكدها الواقع المعاش من تكدس مدرجات الكليات بالجامعات الحكومية وتكدس الفصول فى المدارس والعمل على فترتين دراسيتين أو أكثر فضلا عن معاناة العديد من القرى فى الأقاليم من أن اقرب مدرسة متاحة تقع على بعد كيلومترات. وتشير البيانات الرسمية لوزارة التربية والتعليم إلى أن المدارس التى تعمل فترتين أو أكثر تمثل نحو 22% من المدارس الثانوية التجارية ونحو 19% من المدارس الثانوية الزراعية وأكثر من 35% من المدارس الثانوية الصناعية. كما تشير تلك البيانات إلى أن كثافة الفصل فى المدارس الحكومية تدور فى المتوسط حول 40 تلميذا، وتصل إلى 43 تلميذا فى القاهرة و 47 تلميذا فى الإسكندرية وإلى أكثر من 52 تلميذا فى الفيوم. أما الواقع فيؤكد أن كثافة الفصل تصل فى العديد من المدارس الحكومية إلى 80 تلميذا وأن هناك مدارس يجلس فيها التلاميذ على الأرض. ورغم ما يؤكده الواقع المعاش وما تشير إليه الأرقام الرسمية من الضرورة الملحة لزيادة الإنفاق على الاستثمار فى بناء وتجهيز المدارس والمبانى التعليمية وترميم القائم منها، فإن نمط التوزيع الحالى لموزانة التعليم والبحث العلمى يوضح أنها تنفق أساسا على الأجور فى حين لا يوجه إلى بناء المدارس والجامعات وتجهيزها وتزويدها بالمعامل والمستلزمات إلا النذر اليسير بحيث لم يتجاوز نصيب الإنفاق على الاستثمار 95% من إجمالى موازنة التعليم فى عام 2013/2014. ومن المثير للدهشة أن الخطة القومية للتعليم 2014 2030 التى حرصت وزارة التربية والتعليم على طرحها على موقعها الإلكترونى تشير إلى استمرار العمل بالتوجهات الحالية وتواضع نصيب الاستثمارات من إجمالى موازنات التعليم خلال السنوات الثلاث المقبلة، وفقا للسيناريوهات التى أعدتها الوزارة بشأن خطة التطوير وتمويلها. حيث لا يتجاوز نصيب الإنفاق على الاستثمار فى تلك السيناريوهات ما يتراوح بين 7% و 14% من إجمالى موازنة التعليم قبل الجامعي. كما أن تحديد أولويات إنفاق موازنة التعليم لابد أن يثير قضية الدور الموكل لصندوق تطوير التعليم. وقد تم تأسيس هذا الصندوق بموجب القرار الجمهورى رقم 290 لسنة 2004، ككيان مستقل يتبع رئاسة مجلس الوزراء، يتولى تقديم المساعدة للمشروعات التى تسهم فى برامج تطوير التعليم فى مستوياته المختلفة بالتعاون مع مختلف أجهزة الدولة والمنظمات المحلية والإقليمية، لمساعدة الدولة على مواجهة تحديات سوق العمل وتوفير احتياجاته من المهارات والكفاءات البشرية. أى أن هذا الصندوق ببساطة هو الجهة المعنية بتطوير التعليم فى مصر، والهدف من هذا التطوير هو توفير احتياجات سوق العمل. وتشير المعلومات المتاحة إلى أن صندوق تطوير التعليم يحصل على التمويل اللازم لنشاطه من الموازنة العامة للدولة. إلا أن متابعة المشروعات التى قام بتمويلها حتى الآن توضح بجلاء أنه يستخدم أموال الموازنة العامة ليس لتطوير التعليم الحكومى الرسمي، ولكن لإيجاد وتمويل نظام تعليم حكومى مواز لأبناء الصفوة والشريحة العليا من الطبقة المتوسطة !! فالصندوق يعلن أنه يركز على ثلاثة مشروعات تتمثل فى مجمعات التعليم التكنولوجى المتكاملة لتوفير التعليم الفنى اللازم لاحتياجات الصناعة، ومدارس النيل المصرية التى يتم إعداد مناهجها الدراسية بالتعاون مع جامعة كامبريدج البريطانية. أما فيما يتعلق بتطوير التعليم الحكومى الرسمى فيركز الصندوق جهوده حاليا على ترميم المدارس التاريخية ، وقد تم اختيار مدرسة السعيدية الثانوية ليكون ترميمها باكورة هذا المشروع. ولا شك أنه من حق المواطن المصرى أن يسأل لماذا تمول الموازنة العامة التى تحصل على مواردها أساسا من الضرائب على قناة السويس وقطاع البترول والفوائض المحولة منهما ومن البنك المركزى المصرى والبنوك والشركات والهيئات العامة وضرائب الأجور، أى الموارد المحصلة من عامة الشعب والمؤسسات المملوكة للشعب، لماذا تمول تلك الموازنة نظام تعليم موازيا لأبناء الصفوة ؟ الدستور ينص على حق أبناء المصريين جميعا فى تعليم تتوافر فيه شروط الجودة، يؤهلهم لفرصة متكافئة فى سوق العمل. ومن هنا فإنه يتعين استخدام موارد موازنة التعليم فى تغطية الاحتياجات الجارية والاستثمارية للتعليم الحكومى الرسمى وليس لإيجاد تعليم حكومى مواز يكرس لجعل سوق العمل الكريم حكرا على شريحة محظوظة من أبناء الصفوة. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى