قصاصات العمر تذروها الريح لشوارع يسكنها الغرباء، وشوارع ضاعت كالغربة.. وجوه بالأبيض والأسود تتراكم على طاولة الذكرى وفوق كراسى النسيان.. أحاسيس مبعثرة غربتها الأقدار والأسفار.. تدب فيها الحياة لتتحول من صور إلى أيام. تأخذنا أبعد من أنفسنا إلى غابة سحرية يفوح منها نبيذ الشوق وعطور الياسمين. ليعود الطير يهمس بالغناء.. ويعود الفجر من بعد الجفاء. فوق غصون الأشجار الخضراء الداكنة تتدلى صور تعود لنصف قرن من الزمان، كانت فيها مصر - آنذاك- ترتدى أبهى ثيابها. يداعبها الهواء العليل، فترف مثل البيارق المثبّتة على مشاجب الود. قطارات سافرت دوننا تحمل داخلها الرفاق، والعمر، والأماكن. مازالت وجوههم تزين جدران البيوت.. يحيطها إطار خشبى أو ذهبى مزخرف، لأعوام طويلة ظلّت قابعة على المناضد بجانب أصص الورود.. نخرجها من تراب الصناديق كلما هب الحنين، ننفض عنها التراب ونلمع زجاجها.. تنتقل من غرفة إلى أخرى حتى تستقر فى دفتر صور العائلة. تتوارى لبعض الوقت، لكنها لا تغيب.. فعمرها أطول من عمر أصحابها. كلما هرب الزمان، أعاده مرة أخرى إلى الوجود. فى حياته، رسم المصور الأرمينى «فان ليو» بعينيه مدارات من الخيال والإبداع وكأنه مخرج سينمائى بارع موهوب. وفى مماته، ظلت عينياه مفتوحة يسرق منها الموج أجمل الخزائن.. ويبعث بها رسائل فى زجاجات تدفعها الأمواج فى بحر الحياة. يقيناً، حديث الصور هو أصعب الحديث وأصدقه، خاصة لو كان وراء كل لقطة حكاية. وقد انفرد «فان ليو» بنسج الحكايات باسلوب مميز أقرب إلى نحت الضوء وصياغة عمل فنى رائع بالظلال. فهو لم يجد نفسه فى الألوان التى تجعل - من وجهة نظره- الكل متشابها، واعتبر أن ما دون الأبيض والأسود يفتقد إلى الفن والإبداع. كما تمكن من مزج الوجه والجسد مع الفراغ المحيط به، ليسطر قصصا من خيال، تبرز مزاج البطل وتجعلك تسمع صوته حتى وإن كنت تجهله.. كان طفلا بملابس المدرسة تنطق صورته ببراءة ونعيم الطفولة ووجاهة الأربعينيات.. أو سيدة تفصح عن جمال ملامحها الشرقية من وراء اليشمك.. كانت مصرية تنغمس فى لحظة يتوقف فيها الزمان عن الحركة، لتبدأ زمنها الخاص وهى غارقة فى أحلام اليقظة.. أو أجنبية ترتدى لباس البحر وقبعة الشمس لتواكب الحياة العصرية.. لكل عين لمعة وبريق خاص.. لكل صورة شخصيتها المستقلة. فى كل الأحوال لا تتجرد الصورة من أمضى أسلحتها، وأجمل زيناتها، وهى إحساس «ليو» الذى يسكنها. قدره أن يصير طائر نورس.. يرحل بين الموانى ليحط بالنهاية على شاطيء النيل. رغم أسفاره، لم يفكر أبدا فى الرحيل من المحروسة، فيما أقدم شقيقه «انجليو» - البارع فى الرقص على الجليد- على الاستقرار فى كندا. يسمو طليقاً خفيف الجناح وراء الزمان، وراء الحدود. لا يغيب عن ذاكرة المصور الأرمينى مأساة أسرته وهى تهاجر من تركيا (موطن عائلته الأصلي) فراراً من مذابح الأرمن هناك. كان عمره آنذاك لم يتجاوز الأربعة أعوام حين فتحت له مصر أبوابها فى عام 1925، فباتت هى أرض الخلاص بالنسبة له.. أرض المحبة والسلام. عاشت الأسرة الأرمينية - الهاربة من جحيم الإبادة الجماعية- فى محافظة الزقازيق لمدة ثلاث سنوات، قبل النزوح إلى القاهرة. هناك التحق الصبى ليفون بويادجيان، الشهير ب «فان ليو»، بالمدارس الأرمنية، ليكمل بعد ذلك دراسته فى الجامعة الأمريكية. ينظر فى المسافات البعيدة، مازال يذكر طفولته التى شهدت لغات عديدة كان يسمعها من المحيطين به حيث باتت «الأرمنية» هى لغة البيت، و«التركية» للغناء وتبادل الأحاديث خلال زيارات الأقارب الفارين من مذابح الأتراك، وتتردد «اليونانية» داخل محلات البقالة، و«الانجليزية» يتحدثها زملاء والده فى شركة الترام. بينما هو يتحدث بلغة تعد مزيجا بين العربية والانجليزية والفرنسية، مما يسر عليه التعامل مع شرائح المجتمع من الأجانب والمصريين، فى وقت كانت فيه مصر بلد كوزموبوليتانى متعدد الثقافات. منكسرا أمام مرآة الزمن الذى أدار له وجهه فى آخر أيامه، دائما كان يعرب من خلال الأحاديث الصحفية والتليفزيونية عن بالغ قلقه تجاه ما تشهده البلاد من اضطرابات وتحولات سياسية مخيفة: بدءا من حريق القاهرة، تلاه سقوط الملكية وهجرة الجاليات الأجنبية (التى كانت تشكّل معظم زبائنه).. ثم الدخول فى أكتر من حرب لنصرة فلسطين.. وأخيرا الإرهاب والتطرف الدينى الذى ضرب البلاد فى التسعينيات. لكن صدمته الحقيقية كانت فى حب المصريين للصور الملوّنة، قائلا: «عندما اكتشفوا الألوان، نسوا أن الأبيض والأسود هو أساس المهنة!. يرون أن الفن فى اللون، وهذا خطأ. 90% منهم مهتم بالألوان، غير مكترث بالمصور أو الصورة!». رغم استيائه مما آلت إليه الأوضاع وتباين الذوق العام، لم تراوده فكرة الهجرة من بلد لم يعرف غيره وطناً. أحب مصر وأحب تاريخها. فقد كان عمره ثلاث سنوات حين هربت أسرته من تركيا ووصلوا إلى ميناء الإسكندرية. يلوّح للقطارات الراحلة دون أن يرحل.. يترقب أسراب المهاجرين إلى منافيهم البعيدة وقلبه يعتصر آلما على فراقهم. كباخرة مثقوبة، لا يستطيع الإقلاع أو الغرق. يجمع بقايا الغيوم الحزينة وصور أسرته وأصدقائه عند أهرامات الجيزة، واستراحة ميناهاوس، وقلعة صلاح الدين، والإسكندرية.. فهى كل ما تبقى له فى دنياه إلى أن توفى عام 2002. أدرك ما فيها من الفتن، أخلص لآلة التصوير كعاشق مُفتتن. هناك أشخاص يبحثون عن أشياء داخل هذا العالم، لكن «ليو» كان يبحث عن أشياء خارجه. لذا، بدت صوره الفوتوغرافية أقرب إلى لوحات كلاسيكية. تزين بورتريهاته جدران «استوديو مترو» فى شارع فؤاد بوسط البلد، الذى اشتراه عام 1941 وحوّله إلى استوديو «فان ليو». كان أبرزها بورتريه الأديب يوسف السباعي، والزعيم جمال عبد الناصر، واللواء محمد نجيب، والملك فاروق، وعميد الأدب العربى طه حسين، الذى حضرت زوجته الفرنسية سوزان عزاء والدة «ليو». لم تقتصر صوره على السياسيين والأدباء وحدهم.. يتسكع تحت أضواء المصابيح.. حانة تطرده إلى حانة.. تلتقط عدسته صوراً لراقصات من جميع دول العالم. إجادته للّعب بالإضاءة والظلال أضفت على أعماله صبغة هوليوود. فاكتسب صيتا عظيما وأصبح مصور النجوم. ترك لنا الفنان الأرمينى أرشيفا هائلا من الصور التى توثّق لتاريخ السينما فى مصر وفنانيها بتسريحات الشعر والأزياء التى تعكس موضة كل عصر. بينما كان رشدى أباظة هو أكتر من فاز بنصيب الأسد من عدسته، تجسدت وجاهة الأربعينيات فى بورتريهات كل من: فريد الأطرش، ومديحة يسري، وفاتن حمامة، وسامية جمال، ومريم فخر الدين. كما أبرز بساطة وأناقة الستينيات فى بورتريهات ماجدة الخطيب، وميرفت أمين التى أكد أن وجهها من أجمل الوجوه التى صوّرها، لأنه قابل للتصوير من جميع الزوايا. وقد تنبأ بموهبة شريهان الطفلة ذات العشر سنوات، فالتقط لها عدة صور بملابس مختلفة: الكاوبوى (راعى البقر)، وعسكرى المرور، وجلباب بدوية، و راقصة اسبانية. فكرة التنكر كانت دائما تراوده، فعالمه أكبر من عالمنا وأوسع.. وهو ما يفسر تصويره أكثر من 400 صورة شخصية لنفسه بأشكال مختلفة. فى هذا السياق، يقول: «كنت اقتنى مجلات وصوراً لممثلى هوليوود، وأدرس فيها بعض نواحى الاضاءة والديكور والملابس. كنت أنظر فى المرآة وأفعل ما يحلو لي. أضبط الاضاءة وأصور نفسى على سجيتي. بينما لا أملك هذه الحرية مع الزبون». أثبت «ليو» للجميع أن المصور يمكنه بالإضاءة وتعبيرات الوجه أن يغير من ملامحه تماما. لذا، لا تندهش حين تراه أقرع، أو سجين.. وتارة طيّارا أو بحّارا.. وتارة أخرى رومانيا أو أغريقيا.. فخياله بلا حدود، مشبّع بالجنون والإبداع. تغرق المدن وتتشكل فى الغياب. ترحل الأزمنة حتى تصير شذى عطر يفوح من صورة.. أو من أغنية أو كتاب. وتبقى أعمال «فان ليو» خالدة.. تترك فوق العشب ندى الخطوات.. خطوات لوجوه رحلت عن عالمنا ومضت أصداؤها نحو كهوف الذكريات.