لعله غنى عن البيان أن الأديان السماوية جميعا بل وجل العقائد الإنسانية تتفق على الدعوة لمكارم الأخلاق من الكرم إلى الصدق إلى الرحمة إلى الإخلاص فى العمل إلى آخر تلك القيم الإنسانية، و لعله غنى عن البيان أيضا أن واحدا من منابع التأويل الإرهابى للدين يتمثل فى الحيلولة دون رؤية عقائد الآخرين مباشرة بحيث يبلغ الأمر حد التعامل معهم بل حتى قراءة كتبهم.ومن خلال هاتين الحقيقتين خطر لى منذ سنوات أن أطرح اقتراحا بالغ التواضع يقوم على إعداد كتاب عن القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان السماوية بحيث نرسخ لدى أطفالنا أن الأديان جميعا تتفق فى القيم الأخلاقية والسلوكية التى تدعو إليها. وصادف ذلك الاقتراح قبولا لدى السيدة الدكتورة السفيرة مشيرة خطاب، وزيرة الدولة للأسرة والسكان آنذاك؛ فبادرت مشكورة بدعوتى للمشاركة فى لقاء حول مائدة مستديرة، ضم فضيلة المفتي، وعددا من رجال الدين الإسلامى والمسيحى البارزين؛ إلى جانب نخبة من أساتذة التربية بجامعة الأزهر و غيرها من الجامعات المصرية، وعدد من الشخصيات العامة. وكان الهدف من تلك الاجتماعات بلورة فكرة وضع سلسلة كتيبات تتضمن القيم الأخلاقية المشتركة بين كل الأديان والعقائد والثقافات فى مصر مع التركيز على الديانتين الإسلامية و المسيحية. وأكدنا آنذاك أن هذه الكتيبات ليست بديلا لمقررات الدين الحالية فى المدارس، بل تهدف للإسهام فى بناء عقل ووجدان الطفل المصرى فى إطار من القيم الدافعة للتكامل الوطنى والعيش المشترك واحترام حقوق الآخرين الإنسانية وحقوقهم فى مواطنة متساوية دون تمييز، إلى جانب القيم الدافعة للتقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأجل مستقبل أفضل لهذا الوطن. واتفقنا على تحديد معايير يقوم عليها اختيار القيم المتضمنة داخل السلسلة بحيث تعالج واقع القضايا الاجتماعية و الثقافية التى يمر بها المجتمع المصري، وتعكس القيم الثقافية والدينية المشتركة لكل المصريين، مع الابتعاد عن كل ما هو مختلف عليه، وأن تحمل الموضوعات الطابع المصرى الخالص وتعرض نماذج من الحياة المصرية التاريخية والمعاصرة، خاصة فيما يتعلق بالعيش المشترك، وأن تدعم قيم التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسلوكيات المواكبة لها، على أن تراعى الكتيبات تدرج مراحل النمو النفسى والعقلى للطفل، وأن تتدرج الأمثلة والموضوعات من محيطه الأصغر متمثلا فى الأسرة والجيران والمدرسة إلى محيطه الأكبر الذى يشمل المجتمع العام والوطن و العالم. وكان المتصور أن تستهدف تلك السلسلة ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: من 4 إلى 6 سنوات والمرحلة الثانية: من 6 إلى 9 سنوات، و المرحلة الثالثة: من 9 إلى 12 سنة. ووفقاً للمعايير السابقة فقد تم بالفعل وعلى أساس علمى اختيار القيم الملائمة لكل مرحلة، و كانت تلك القيم تشمل قبول الاختلاف والتنوع والحب والرفق والصدق وقبول الآخر والصداقة واحترام الذات والآخر والمساواة والوفاء والكرامة الإنسانية والتفكير وإعمال العقل والشجاعة ونبذ العنف والتعاون والعمل الجماعى وتحمل المسئولية. وتوقفت الاجتماعات بعد أن أنجزنا تخطيطا شبه متكامل للمشروع، وبدا لنا أن الأمر قد انتهى ولم يبق سوى التنفيذ، ولم نتصور أن ثمة عقبة يمكن أن تحول دون ذلك التنفيذ بعد اتفاق الأطراف الإسلامية والمسيحية تحت مظلة الدولة على تفاصيل الكتاب المرجو. ومضت سنوات حافلات وبدا أن الفكرة قد طواها النسيان إلى أن قرأنا فى منتصف العام الماضى أن وزير التربية والتعليم و وزير الأوقاف قد دشنا صدور كتاب «القيم والأخلاق والمواطنة» باعتبار أنه سوف يدرس بالمدارس من أكتوبر 2014، وأكد وزير الأوقاف أن الكتاب الذى أعدته وزارة التربية والتعليم والذى تم إنجازه بإشراف الأزهر والكنيسة.. لن يتوقف عند حدود وزارة التعليم بل سيوزع بمراكز الشباب وقصور الثقافة، مؤكدا أن الكتاب يحظى بدعم الأزهر والكنيسة ووزارة الثقافة. ورغم ما يبدو من أننا بصدد محاولة جديدة ليست استمرارا للجهد السابق فقد تفاءلت وتوقعت أن نرى أخيرا بين أيدى التلاميذ مع بداية العام الدراسى كتابا يرسخ لديهم أن الأديان لا تختلف من حيث القيم الأخلاقية الأساسية التى تدعو إليها. لكن خاب ظنى و ضاع تفاؤلى فالكتاب لم ير النور حتى الآن؛ و تضاربت الأقوال حول مصير ذلك المشروع التربوى الوطنى الذى يكرس الوحدة الوطنية و يتصدى لجذور الانغلاق والتعصب، والذى تم برعاية الأزهر والكنيسة وتحت المظلة الرسمية لدولة تواجه الإرهاب ولا يكف رئيسها عن الدعوة لحاجتنا إلى خطاب دينى يواكب مستجدات العصر. والسؤال هو: ما كنه تلك القوة الرهيبة الغامضة التى استطاعت الوقوف فى وجوه الجميع؟. لمزيد من مقالات د. قدري حفني