لأن الشعوب دائما خلاقة ومبدعة وقادرة على تحقيق المعجزات،عندما تستخدم طاقاتها وتوحد صفوفها، ولعل قوتها تكمن فى وحدتها مهما كانت الصعاب والمشاكل التى تعرقل طريقها، وهو ما تحقق فى حرب أكتوبر عام 73 ، وثورتى 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013 ، التى ألهمها "الشابي" من أبيات قصيدته قصيدته "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" فى بدايات ثلاثينات القرن الماضي، حتى غدت شعارا للثورات العربية، بعد أن آمن بها كثير من الثوار، وظلت راسخة فى وجدان الشعوب حتى صارت واقعا ملموسا على الأرض . وقد التفت صناع الأغنية منذ بداياته الأولى بالاحتفاء بالشعب، وذكروه فى مئات الأغنيات التى تلهب الحماسة الوطنية، ولعل أبرزها إسم "الشعب" التى تغنت بها أم كلثوم، فى ظل الاستغراق الغنائى فى بدايات القرن الماضى على اللون العاطفى الساذج الملئ بالإيحاءات، والبعد التام عن مشاكل وهموم الناس، إلا أن ظهر سيد درويش فخلصه من كل أمراضه المستوطنه فيه، وواكب ظهوره ثورة 1919، فعبرعنها بأغنياته الوطنية الحماسية التى ألهبت حماس الشعب المصري. واستمرت مسيرة الغناء الراقى بعد وفاة سيد درويش بظهور أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفتحية أحمد وغيرهم، وانتبه القائمون على الغناء إلى أهميته وتأثيره فى الوجدان، فبدأ الغناء الوطنى يحتل مكانة مرموقة، وسارع كثير من المطربين فى المناسبات والأحداث الوطنية التى تمر بالمجتمع المصرى إلى تقديم أغنيات تعبر عن الحدث، كما فعلت أم كلثوم عندما قدمت وهى صبية صغيرة "موال شنق زهران"، وقدمت عام 1927 فى ذكرى سعد زغلول أغنية " إن يغب عن مصر سعد"، كما قدم محمد عبدالوهاب " على يوم ما خدونى الجهادية" و"حب الوطن فرض على". ثورة يوليو1952 وعقب قيام ثورة 1952 قام أحد ضباط مجلس قيادة الثورة بمنع أغنيات أم كلثوم من الإذاعة بقرار فردى متخيلا إنه بذلك سيرضى الرئيس محمد نجيب وحاشيته، لأن كوكب الشرق كانت محسوبة على المللك ونظامه آنذاك، وما أن علم الزعيم جمال عبدالناصر بهذا القرار حتى تدخل شخصيا بإعادة اذاعة اغانيها، وقربها منه، فلم يجد أفضل من صوتها وشعبيتها ليعبراعن ثورتهم. ولم يقتصر قربها منه على المستوى الغنائى فقط ولكنها كانت تتردد على منزله فى منشية البكرى فى أى وقت، وفى كثير من الأحيان بلا مواعيد تلتقى بالعائلة، أو بأى أحد من الضباط الأحرار، أو تتصل تليفونياً لتعرض رأياً أو فكرة أو مشكلة أو حتى نقدا قد يعن لها أن ينقل للرئيس بلا حساسيات، وأصبحث أم كلثوم مطربة الثورة المصرية. كانت تلك الفترة ثرية بالإنجازات الثقافية والفنية، وعرف المسئولون عن ثورة 1952 أن الصراع السياسى والبناء الاقتصادى لابد لهما من روح قوية، وهذه الروح لا يمكن بناؤها إلا بالفن والثقافة. وكانت بداية ذكر اسم " الشعب" فى أغنيات أم كلثوم عام 1958 من خلال أغنية " بعد الصبر ماطال" التى تغنت بها بمناسبة الوحدة بين مصر وسوريا، من كلمات بيرم التونسي، وألحان رياض السنباطى والتى قالت فى أحد كوبليهاتها : " الشعب اللى رفع الراية لصلاح الدين / أودعها يمين عبدالناصر ويمينه يمين / السعد معاه / والشعب وراه / والله معين". وفى نفس العام، وبالتحديد يوم 4 مايو، وبعد عودة جمال عبدالناصر من زيارته للاتحاد السوفيتى تغنى له أغنيتها " بطل السلام" لنفس المؤلف والملحن، والتى بشرت بالحلم الوطنى والتى تقول فيها: " لا بالسلاح ولا بالقوة / لكن مودة وأخوة / قلوب نبيلة فتحناها / وشعوب قوية كسبناها / كانت قلوبها ويانا". السد العالى وعندما فكر جمال عبدالناصر فى بناء السد العالى لم يجد أفضل من صوت كوكب الشرق للتعريف بهذا المشروع الوطنى العملاق، فقدمت فى 26 نوفمبر عام 1959 أغنية "كان حلماً فخاطراً " كلمات عزيز أباظة وألحان رياض السنباطي، والتى تقول فيها: " قالها من صميم أفئدة الشعب / فكانت أقواله أعمالا / وإذا هبت الشعوب إلى الغايات / شقت لنيلهن الجبالا"، وعندما تم تحويل مجرى النيل عام 1965 غنت " فى نهاية أغنية " تحويل مجرى النيل" كلمات عبدالوهاب محمد وألحان رياض السنباطى وتقول: " تمت مرحلة بإرادة الحر جمال / وبإرادة شعب أصيل / يا سلام على ده تحويل". ثوار فى عيد الثورة عام1961 تلتقى حنجرة أم كلثوم بكلمات المبدع صلاح جاهين وألحان السنباطي، فى رائعتهما " ثوار" التى تقول فيها: " الشعب قام يسأل على حقوقه / والثورة زى النبض فى عروقه / وطول ما أيد شعب العرب فى الإيد الثورة قايمة والكفاح دوار". وعقب الحركة الانفصالية بين مصر وسوريا عام 1961 قدمت أغنية " باسم مين" كلمات أحمد شفيق كامل وألحان السنباطى والتى كان من كلماتها: "باسم مين يا خارجين ع الشعب/ قمتم باسم مين؟/ باسم اسرائيل والاستعمار؟/ ولا باسم المأجورين/ ولا باسم الشعب/ والشعب منكم بريء/ ده مستحيل تفريق قلوب المولى جمعها فى طريق". أنا الشعب وفى الذكرى العاشرة لثورة يوليو، وبالتحديد يوم 23 يوليو 1962 تقدم أم كلثوم أغنيتها " الزعيم والثورة" كلمات الشاعر عبدالفتاح مصطفى وألحان السنباطى والتى تتغنى فيها بإنجازات الثورة على مدى عشرة أعوام فتغنى قائلة: " الزعيم والثورة وفوا بالعهود/ لسه دور الشعب يوفى بالجهود/ بالإرادة والعزيمة نبنى أمتنا العظيمة". وبعد تعاونها مع الموسيقار محمد عبدالوهاب فى " أنت عمري" فى شهر فبراير عام 1964 ،وبفضل النجاح الكاسح الذى حققته هذه الأغنية تلتقى به مرة آخرى فى احتفالات الثورة، من خلال رائعة كامل الشناوى " على باب مصر" التى تتغنى فيها بأكثر من كوبليه عن الشعب فتقول: "وصاح من الشعب صوت طليق/ قوى أبى عميق عريق / يقول أنا الشعب والمعجزة / أنا الشعب لا شئ قد أعجزه / وكل الذى قاله أنجزه " ويعود كامل الشناوى فى الكوبليه الآخير ليؤكد أن الشعوب إذا أرادت لا تعرف المستحيل فيقول: " أنا الشعب لا أعرف المستحيلا/ ولا أرتضى بالخلود بديلا / بلادى مفتوحة كالسماء/ تضم الصديق وتمحو الدخيلا / أنا الشعب شعب العلا والنضال / أحب السلام أخوض القتال / ومنى الحقيقة منى الخيال/ وعندى الجمال وعندى جمال". انتخاب جمال وبمناسبة اختيار جمال عبدالناصر مجددا رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، تغنى له من كلمات عبدالفتاح مصطفى، وألحان محمد الموجى " يا سلام على الأمة" التى يقول مطلعها: " يا سلام ع الأمة فى وحدة الكلمة بالحب والإجماع / إرادة تسند إرادة من الصفوف للقيادة بالشورى والإقناع/ والشعب حسن إختياره أكد طريق انتصاره/ بالحب والتأييد من بورسعيد للصعيد" وفى الكوبليه الأخير تقول " عناية ربنا بكلمة شعبنا/ إختارت اللى يرعى أمانة عهدنا / عاهدك بقلبه الشعب ع المسئولية الصعب/ والصعب كله يهون طول ما انت جنبنا". نكسة يونيو وقبل نشوب حرب يونيه 1967 بأيام قليلة، وتحديدا فى الأول من يونيه غنت أغنيتها " الله معك" أو " راجعين بقوة السلاح"، كلمات صلاح جاهين، وألحان السنباطي، وفى حفل ساهر غنت فيه أيضا " سلوا قلبي" و" حديث الروح"، وفيها قالت: " وأنت يا شعبنا المجيد اضرب الإستعمار بارود / إن كان قديم ولا جديد مالوش على أرضك وجود". وبعد حدوث النكسة وتنحى جمال عبدالناصر، وتخليه عن منصبه غنت يوم 10 يونيه 1967 بصوت يعتصره الألم أغنية بعنوان "إبقى" وسماها البعض "حبيب الشعب"، وهى من تأليف صالح جودت وتلحين رياض السنباطى وفيها تغنت بإسم شعب مصر كله الذى خرج فى الشوارع يرفض التنحى لتقول: " قم وأسمعها من أعماقى فأنا الشعب/ ابق فأنت السد الواقى لمنى الشعب / إبق فأنت الأمل الباقى لكل الشعب/ أنت الخير وأنت النور/ أنت الصبر على المقدور/ أنت الناصر والمنصور/ إبق فأنت حبيب الشعب دم للشعب". وتعتبر هذه الأغنية آخر أغنية وطنية قدمتها سيدة الغناء العربي، وبعدها بسنوات قليلة وبالتحديد يوم 3 فبراير رحلت عن دنيانا.