كان جمال عبدالناصر يقدر الفن والفنانيين، لذا أحدث نهضة ثقافية حقيقية فى عهده، انطلاقا من إدراكه لدور الفن والثقافة فى حياة الشعب المصرى، واستطاع عبر حنجرة كل من «أم كلثوم وعبدالحليم حافظ» الوصول بأفكاره للجماهير المصرية والعربية، وكان هذان الصوتان تحديدا بمثابة القناة التى مرر من خلالها سياساته ومشروعاته لهذا كان الغناء له بكل الصدق ومن أعماق القلوب، وهكذا كان وضع الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والمسرح أيضًا، فالسلطة تحتاج دائما إلى من يسهل لها الوصول بأفكارها للناس، كما أن الفنان يحتاج هو الآخر لمن يسانده، ويوفر له الأرضية الصلبة والمظلة التى يستطيع عن طريقها تدعيم نفسه والانطلاق إلى عوالم أوسع وأرحب من الشهرة والمجد تحت غطاء آمن يحميه من أعدائه ومنافسيه. هذا الجانب المهم فى حياة عبدالناصر تجاهله تماما مسلسل « صديق العمر» تأليف الكاتب الراحل ممدوح الليثي، سيناريو وحوار محمد ناير، وإخراج الفلسطينى عثمان أبولبن، والذى تناول مراحل مهمة فى حياة الزعيم جمال عبدالناصر والشعبين المصرى والعربي، وجاء مخيبا للآمال، مليئا بالأخطاء التاريخية، بليدا فى الإخراج، مهلهلا فى السيناريو والحوار. صحيح أنه تم نقد المسلسل خلال الفترة الماضية بما فيه الكفاية، وبعيدا عن كل الأقلام التى تعرضت لهذا العمل المهترئ، يهمنى توضيح شيئ مهم لم يلتفت إليه أحد، وهو عدم إذاعة أى أغنيات وطنية طوال أحداث المسلسل، رغم أن المسلسل تناول أحداثا مهمة جدا أرخت لها الأغنية الوطنية بشكل واضح جدا، لدرجة أننا نتذكر الأحداث التى حدثت بمجرد سماعنا للأغنية، ومازالت تلك الأغنيات تتردد على لسان الجميع حتى الآن، حيث ازدهرت الأغنية الوطنية فى عهد عبدالناصر، وتسابق المطربون بمختلف شرائحهم على الغناء له، أو لمشروعاته، لأن الشعب كله كان يعيش الحلم الواحد، والتف المجتمع بكل طبقاته حول مشروع قومى واحد، خاصة أن عبدالناصر نجح فى إيقاظ الروح الوطنية الثورية لدى المصريين، وكان لديه القدرة على بث الحماس فى قلوب وعقول الجماهير التى صدقته، ولهذا أفرز عهده عشرات الأغانى التى مازالت خالدة وباقية، وشاهدة على ازدهار الفن فى عهد عبدالناصر.
وحدة ما يغلبها غلاب تحدثت الحلقات الأولى وحتى العاشرة تقريبا من«صديق العمر» عن الوحدة المصرية السورية، والتى كانت بداية لتوحيد الدول العربية أحد أحلام الرئيس جمال عبد الناصر، والمشاكل التى صاحبتها منذ أن أعلنت فى 22 فبراير 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من قبل الرئيسين السورى «شكرى القوتلي، وجمال عبد الناصر»، ورغم أن هذا الحدث الهام صاحبه مجموعة من الأغنيات الشهيرة التى ما زالت محفورة فى أذهان الجميع حتى الآن، إلا أن المسلسل تجاهلها تماما. أول هذه الأغنيات والتى انطلقت بعد الوحدة مباشرة رائعة « وحدة ما يغلبها غلاب» لصوت النيل عمنا محمد قنديل، كلمات الشاعر الكبير بيرم التونسي، وألحان المبدع عبدالعظيم عبدالحق، التى يقول مطلعها: « وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة أحباب توصلنا من الباب للباب ولا حايل ما بين الاتنين و لا مانع ما بين الاتنين ولاحاجز ما بين الاتنين أنا واقف فوق الأهرام و قدامى بساتين الشام أشاهدها وأهالى كرام يقولوا لى قرب يا زين يقولوا لى مرحى يا زين يقولوا لى أهلا يا زين» وكانت هذه الأغنية تتردد يوميا بقوة عبر أثير إذاعتى مصر وسوريا، طوال سنوات الوحدة.
من الموسكى لسوق الحميدية ونفس النجاح والجماهيرية حققته أغنية المطربة صباح « م الموسكى لسوق الحميدية» تأليف مرسى جميل عزيز، وألحان فريد الأطرش، والتى تقول فى بدايتها: م الموسكى لسوق الحميدية أنا عارفة السكة لوحدية كلها أفراح وليال ملاح وحبايب مصرية وسورية. وبعد النجاح المدوى لهذه الأغنية التى أبرزت مدى الروابط الحقيقية بين الشعبين المصرى والسوري،دون خطابة أو هتاف، قدمت صباح أيضا لنفس الشاعر والملحن أغنيتها الشهيرة « حموى يا مشمش» التى تتغنى بمرور عام على الوحدة فتقول: حموى يامشمش بلدى يامشمش عيد وحدتنا ملا سكتنا وفرش بيتنا زهر المشمش شرفت ياعيد وآنست ياعيد يافرح ياجديد على حب جديد شرفت ياعيد وآنست ياعيد والنصر أكيد وصبح فى الآيد شرفت ياعيد وآنست ياعيد وف عيد ورا عيد نكبر ونزيد يا للى معانا قول ويانا عيد وحدتنا ملا سكتنا عيد وحدتنا ملا سكتنا وفرش بيتنا زهر المشمش».
إحنا وياك ياريس كما قدمت «صوت مصر» شادية أغنيتها الجميلة « أحنا وياك ياريس» كلمات فتحى قورة، وألحان محمد الموجي، والتى تقول فى بدايتها : « إحنا وياك ياريس إحنا وياك فاهمين الوحدة كويس إحنا وياك وحنفديها ونحميها يا دمشق ودير الزور يا حلب يا بلاد أحبابنا وحدتنا طريق النور نفديها بكل شبابنا الشعب العربى بحاله وياك وياك
غنى يا قلبي غنى عبدالحليم حافظ من قلبه للوحدة أغنية جميلة جدا - لا تذاع الآن للأسف - بعنوان «غنى يا قلبي»، كلمات أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبدالوهاب يقول فى بدايتها: غنى يا قلبى وهنى الدنيا وقول مبروك كبر البيت واتجمع شملك أنت وأخوك قول للدنيا دا أجمل عيد مصر وسوريا اتخلقوا جديد
الوطن الأكبر وإيمانا بالوحدة العربية وبمناسبة وضع حجر الأساس للسد العالى يوم 9 يناير 1960، قدم مجموعة من الفنانين للوحدة النشيد الخالد «الوطن الأكبر»، وقد غنى فى النشيد الأول «عبدالحليم حافظ، هدى سلطان،صباح، نجاة، شادية»، وهذا النشيد يختلف فى بعض كوبليهاته عن النشيد الذى نستمع إليه حاليا، والذى اشتركت فيه فايدة كامل، ووردة الجزائرية، ولكن لم تشارك فيه هدى سلطان.
نشيد الثأر وبعد مرور ثلاث سنوات على وحدة مصر وسوريا وفى حفل برنامج «أضواء المدينة» فى العاصمة السورية بنادى الضباط بدمشق، اشترك عبدالحليم حافظ مع المطرب السورى رفيق شكري، وصباح، وعبدالغنى السيد، ومحمد قنديل، وفايزة أحمد،ونجاة، وفايدة كامل، ونجاح سلام فى نشيد «الثأر»، كلمات أحمد شفيق كامل، وألحان على إسماعيل، والذى تم منع إذاعته بعد الانفصال مباشرة، ولا يذاع حتى الآن ويقول فى أحد كوبليهاته على لسان فايزة أحمد: يوم ما اتحد الشعب العربى على إيد بطله صلاح الدين كان النصر العربى الظافر يوم الوحدة يوم حطين
باسم مين وعندما أنهيت الوحدة بانقلاب عسكرى فى دمشق يوم 28 سبتمبر 1961، وأعلنت سوريا عن قيام الجمهورية العربية السورية، بينما احتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة حتى عام 1971، طلب عبدالناصر من أم كلثوم - التى كان يعتبرها صوته كما ذكر لى أحمد شفيق كامل فى حوار مسجل بيننا وتم نشره فى مجلة الأهرام العربى 2002 - أن تهاجم الانفصال فقدمت بعد أيام قليلة من قرار الانفصال وبالتحديد يوم 7 أكتوبر 1961 أغنية لم تذع كثيرا بعنوان « باسم مين» كلمات أحمد شفيق كامل، وألحان رياض السنباطى يقول مطلعها: « باسم مين يا خارجين ع الشعب قمتم باسم مين باسم إسرائيل والأستعمار وباسم المأجورين باسم مين ولا باسم الشعب والشعب البطل منكم برئ مستحيل تفريق قلوب المولى جمعها فى طريق وعلى قدر براعة وعظمة تلك الأغنيات التى تعد علامات بارزة فى الغناء الوطنى الحى ، وتعكس فى الوقت ذاته عبقرية ذلك الزمن الجميل، الذى اجتمعت فيه كل عناصر الأمة حول مشروع قومى مشترك، فقد أهملها المسلسل ولم يذكرها، رغم أهميتها الكبرى فى إثراء العمل، وإضفاء جو من المصداقية على الأحداث.
حرب اليمن وفى السياق نفسه تجاهل المسلسل أيضا الأغنية التى تشير إلى حرب اليمن والتى استمرت أحداثها على مدى أربع حلقات تقريبا، والمفارقة أن هذه الأغنية تم تقديمها بتكليف من الرئيس جمال عبدالناصر شخصيا، عندما اتضح له أن كثيرا من الجماهير المصرية غير راضية عن إرساله لجنود مصريين للحرب فى اليمن، فقام على الفور بتكليف الموسيقار محمد عبدالوهاب بتلحين أغنية وطنية يكتبها الشاعر حسين السيد، ويقوم بغنائها عبدالحليم حافظ، وبالفعل غنى العندليب أغنية «يا حبايب بالسلامة» والتى يقول مطلعها: يا حبايب بالسلامة روحتم و رجعتم لنا بألف سلامة رحلة نصر جميلة مشوار كله بطولة خطوة عزم نبيلة لسنين جاية طويلة ثورة شعب بحاله هبت من أجياله أيدتم فى نضاله و شاركتم أبطاله و دافعتم عن شرف العزة و الكرامة عشت يا جيشنا العربى و تحيا الشهامة»
النكسة ولايسقط من ذاكرة المصريين أبدا تلك الأغنية التى عبرت بالشعب من الهزيمة إلى بداية طريق النصر،عندما أبكى العندليب الأسمر كل الجماهير العربية على أثر النكسة عام 1967 برائعة عبدالرحمن الأبنودى « موال النهار» ألحان بليغ حمدي، والتى اقترنت بالنكسة وارتبطت بها ارتباطا شديدا، حتى أن الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة عندما تحدث عن النكسة فى مسلسل « ليالى الحلمية» الجزء الثالث لم يجد أفضل منها لتعبر عن الألم العظيم الذى شعر به كل المصريين فى هذا الوقت، ورغم هذا تجاهلها عبقرى عصره أبولبن «مخرج الكليبات الشهير» الذى كان متوقعا منه أن يلعب بهذه الأغنيات طوال الأحداث لإثراء مسلسله.
خطاب التنحي عندما القى الرئيس جمال عبدالناصر خطاب التنحى يوم 9 يونيو 1967 خرجت أم كلثوم عن صمتها وحزنها وآلامها لتقول له نيابة عن الشعب المصرى كله « إبق» فى أغنيتها التى لا تذاع إطلاقا الآن، والغريب أنها إذيعت مرة واحدة فقط، وكانت بعنوان « حبيب الشعب» كلمات صالح جودت وألحان رياض السنباطى والتى تقول فيها وهى دامعة العينين باكية الصوت: قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب إبق فأنت السد الواقى لمنى الشعب إبق فأنت الأمل الباقى لكل الشعب أنت الخير وأنت النور أنت الصبر على المقدور أنت الناصر والمنصور إبق فأنت حبيب الشعب دم للشعب قم إنا جففنا الدمع وتبسمنا قم إنا أرهفنا السمع وتعلمنا قم إنا وحدنا الجمع وتقدمنا قم وأدفعنا بعد النكسة وارفع هامة هذا الشعب»
الشارع المصري ولا يقتصر إهمال «أبولبن» على تجاهله التام لإذاعة أى «كوبليه» لروائع الغناء الوطنى التى ذكرناها، ولكنه حصر نفسه بين جدران الاستديوهات، ولم يخرج بالكاميرا فى الشارع إلا فى مشاهد قليلة جدا تعد على أصابع اليد الواحدة، منها مشهد هزيل للجماهير بعد تنحى عبدالناصر مباشرة، ودارت كل الأحداث فى المكاتب والبيوت، وكأن عبدالناصركان معزولا عن العالم وعن شعبه وليس واحدا منهم، وبالتالى لم نرى تأثير كلامه ولا خطاباته النارية على أى شخص ولا حتى على زوجته!، على الرغم من أنه الزعيم العربى الوحيد الذى تفاعل مع الشارع إلى حد أن حملوه على الأعناق فى كل موطئ قدم كان يذهب إليه، ولعل زيارته الأولى لسوريا - وقت الوحدة - أكبر شاهد على ذلك حين حملته الجماهير بسيارته على أكتافها فى زهو وافتخار بزعيم الأمة، وكذا تكرر المشهد فى زيارته للمغرب ولبنان وغيرها من الزيارات الميدانية داخل القطر المصرى أو خارجه، عندما كان يحمل على عاتقه كل هموم أمته.