ما حدث بعد 25 يناير ولمدة أربع سنوات فى المسرح المصرى يدعو إلى الدهشة، إذ تم تقديم عشرات العروض عن الثورة بعد أسابيع معدودة ؟ ! عشرات العروض والشعارات والحلول تم تقديمها على الفور،وهذا لم يحدث فقط فى المسرح بل فى شتى الفنون والآداب، فعشرات الكتب عن الثورة صدرت عام 2011، وأيضاً داووين الشعر والروايات والقصة، وظنى أن 25 يناير كشفت فساد الضمير الثقافى فى مصر! فهؤلاء من وصفهم طه حسين فى حديثه حول أدب الثورة بعد يوليو 1952 « هؤلاء الذين يخطفون أحكامهم خطفاً ويظنون أن ظواهر الحياة خاضعة لسلطانهم، يدعونها فتستجيب، ويمهلونها فتنتظر ويرجئونها فترجئ نفسها ».ففى ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى كان عرضاً مسرحياً غير مقصود شارك فيه جموع المصريين، وساد الاعتقاد الخاطئ بأن وجه الإبداع سوف يتغير، خاصة المسرح،لطبيعته الخاصة فى ارتباطه بالجمهور،وأن ما حدث فى ميادين مصر وشوارعها سوف ينتقل إلى خشبات المسارح، ولا أقصد بشكل وثائقي، ولكن سوف يجد المسرحيون مادة خصبة يستلهمون من وحيها أعمالهم،ولكن وهرولت الغالبية العظمى لنقل أحداث الثورة ويوميات ميدان التحرير، وتقريباً اتفق الجميع فى نقل مسخ مشوه من أحداث الثورة، لأنهم حاولوا محاكاة الأحداث اليومية، فمن ناحية عاش الشعب هذه الأحداث وشاهدها فى صورتها الأصلية، أوعلى الأقل نقلتها له كاميرا الفضائيات بواسطة تقنيات حديثة ،فجاء تجسيدها على خشبة المسرح هزيلاً ، ثمة ما يشبه الخلطة المضمونة لتعاطف الجمهور، إذ تبدأ العروض جميعها بالنشيد الوطني، ودقيقة حداد على أرواح الشهداء، وبعض اللقطات الوثائقية من يوميات الثورة، ولا مانع من تجسيد مصر فى صورة فتاة جميلة وطيبة، مع بعض الأغاني، وبقية الأحداث مسألة ثانوية، وبعد أن شاهدت عدداً لا بأس به من هذه العروض عام 2011 والتى تنوعت واختلفت ولكنها اتفقت فى تواضع المستوى الفني،سألت نفسى هل هذه العروض فى صالح الثورة أم فى صالح المسرح، والحقيقة أنها ليس لها علاقة بهذا أو ذاك إنما تخدم أصاحبها فقط الذين يرغبون فى مديح الثورة ، وهذا رائع، ولكنهم يمارسون هذا الفعل بأداء يوحى للمشاهد، بنفاق الثورة، فلم يختلف الأمر كثيراً عن حكومة نظام مبارك . افترض هؤلاء خطأ أن الثورة لابد أن يساندها إبداع مواز، فراحوا يشرحون الأحداث ويحاولون توظيفها مسرحياً بشتى الطرق، بل راحوا يطلقون الوصفات السحرية لمسرح ما بعد الثورة، وأخرون وجدوا أن ما يحدث انتهازية فكرية وأنه لابد من تأمل الأحداث،واستلهام روح الثورة، والتزم هؤلاء الصمت، فهل أصاب من انحازوا إلى الصمت، وأخطأ من قرروا المشاركة الفكرية، وبعيداً عن وجهات النظر، المُنتج المسرحى وحده يجيب عن هذا السؤال حين جاء متواضعاً، وربما هذه العروض الركيكة هى التى حسمت الأمر، ربما يفكر البعض أو الغالبية أحياناً فى أن الإبداع لابد أن يساند الثورات، ولكن تاريخياً احتاجت هذه المساندة إلى بعض الوقت.
لقد عانى المسرح المصرى سنوات طويلة من استبداد السلطة الحاكمة ليتحول إلى مجرد زخارف ثقافية ظاهرها المسرح وباطنها مظاهر احتفالية تسهم فى تزييف وعى الشعب، لنتأكد فى العقود الثلاثة الماضية التى سبقت الثورة أن أزمة المسرح المصرى ليست فنية بقدر ما هى أزمة مجتمع نسى معنى الحرية ولم يمارس الديمقراطية لعقود طويلة، وكان الظن بعد الثورة أن الصورة سوف تتغير ويستغل المسرحيون المناخ الديمقراطى وروح الثورة لبداية عهد جديد للمسرح المصري، ولكن ما حدث أن هؤلاء استبدلوا الجدل الفكرى والحوارالديمقراطى بالصراع حول المناصب والمكاسب وتبادل الاتهامات، فمن عمل قبل 25 يناير فهو من النظام البائد، ومن مر فى ميدان التحرير فهو من الثوار؟ ناهيك عن الذين حاولوا إثبات الحضور بشكل فعلى من خلال تقديم عروض مسرحية عن الثورة، وهذا ما يبرر رد الفعل السريع، وهى عروض متواضعة فنياً ومحض إنشاء فارغ، ولكن أصحابها يقولون بكل ثقة إنها مسرح الثورة، وتقريباً كل ما شاهدته من عروض تحاول أن تكون ثورية ما هى إلا استنساخ لوقائع وأحداث، قدمتها نشرات الأخبار بصورة أفضل تقنياً، ناهيك عن من شاركوا فى أيام الثورة وعاشوا هذه الأحداث واللحظات الجميلة، فحين يشاهدون هذا المسخ المشوه على خشبة المسرح سيعرفون حجم الكارثة، وجل ما كنت أخشاه فى تلك الفترة أن تستمر المتاجرة باسم الثورة مسرحياً ويستمر تقديم هذه العروض المتواضعة التى ترتدى قميص الثورة، وكأننا لم نفعل شيئاً وكأن الثورة لم تكن، وأن من كان ينافق حكومة النظام السابق أصبح بنفس المنطق ينافق الثورة، وللأسف حدث هذا بشكل كبير.
فما بين أعوام 2011 و2014 عاش المصريون حالة اختلطت فيها الأحلام الكبرى بالأطماع الصغري، اختلطت فيها الأهداف الوطنية بالأغراض الشخصية، ناهيك عن الصراع الشرس بين من انحازوا للدولة المدنية ضد أهل الماضى من الجماعات الدينية سواء المعتدلة أو المتطرفة، وعاشت مصر أربع مراحل ما بعد 25 يناير 2011 بدأت بمرحلة حكم المجلس العسكرى وحتى يونيو 2012 لتبدأ دولة المرشد وحكم الإخوان وحتى 30 يونيو 2013 ثم مرحلة الرئيس المؤقت تحت مظلة القوات المسلحة، ثم رئيس الجمهورية المنتخب فى ظل دستور جديد للبلاد، أربع مراحل حافلة على أرض الواقع بالأفعال والأحداث، ولكن على خشبة المسرح اختلف الأمر، فما حدث لايمكن إلا أن نسميه هزيمة ثقافية للمسرح المصرى فى مواجهة الثورة، فالواقع على الأرض كان قد تجاوز المخيلة الفنية والأدوات المستعملة التى استهلكها المسرحيون قبل الثورة، ولكن ما حدث على خشبة المسرح لم يكن سوى محض محاولة لاستبدال القيم الثقافية والفكرية بقيم السوق، حيث استبدل المسرحيون جماليات المسرح بما ظنوا أنه احتياج للسوق وقتذاك، وأنهم يلبون بهذا النوع من المسرح حاجة لدى المستهلك - المشاهد الثوري! فكما حاول المسرح التجارى فى سبعينات القرن الماضى مخاطبة لاوعى ورغبات طبقة الانفتاح بقيم السوق الرخيصة حاول«ما يسمى مسرح الثورة» مع مراعاة الفارق ارتكاب نفس الفعل ونفس الخطيئة بمحاولته مخاطبة مشاعر الثوار فى الميادين ونسى الفروق الاجتماعية والثقافية بين الفريقين، نسى صناع هذا المسرح أن فجوة الطموح اتسعت بين هؤلاء المشاهدين ومسرحهم، فالمجتمع الذى كان يعيش مجاعة روحية لقيم العدل والمساواة لن يناسبه هذا الاستبداد المسرحي، فما حدث ليس سوى نوع من الاستبداد المسرحى مستمد من قيم ماقبل 25 يناير 2011 التى كانت تمارسها السلطة الحاكمة على الشعب ليس سياسياً فقط بل ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ونسى هؤلاء أن الجزء الأكبر من الشعب المصرى أثناء أحداث الثورة، إما كان شريكاً فاعلاً فى هذه الأحداث أو كان يعيش فى سحر العالم الافتراضى «الإنترنت والفضائيات» الذى اختلط بالواقع وفى أحيان كثيرة كان يوجه الواقع وبالتالى المستهلك- المشاهد.
فما حدث على مدى أربع سنوات هو تقليد، تقليد أعمي، وبالتالى محاكاة عمياء لما يحدث فى الشوارع والميادين وخاصة فى عامى 2011 و2012، وبالتالى لا أسلوب ولاطريقة تعبير ولامسرح، فالإبداع فى الأسلوب وليس فى الغاية، وكان مسرح الثورة غاية بلا أسلوب، فلم يهتم أحد بجماليات المسرح أو بمفردات العرض المسرحي، كانت الغاية هى المشاركة، بنية طيبة أو غير طيبة، إذن كان جوهر ما يحدث فى مسرح الثورة المحاكاة العمياء لا الفكر والإبداع، وهذا لا يختلف كثيراً عن الفكر السلفى الدينى الذى تغلغل فى الواقع المصرى وسيطر على الشخصية المصرية، ماهو إلا فقدان الشعور بالذات، ولذلك اختفى فجأة كما ظهر فجأة دون مقدمات.
فماذا قدم لنا مسرح الثورة، وأين الثورة فى عشرات المسرحيات التى شاهدناها على مدى أربع سنوات، فلم نشاهد أو نلمس أفكاراً ثورية، أو رؤى فلسفية عميقة تقرأ اللحظة الراهنة وتستشرف المستقبل، لم نشاهد أو نلمس جماليات جديدة فى مفردات العرض المسرحى بتأثير الأحداث الكبرى التى مر بها الوطن، الزلزال الذى حطم كل ما هو راسخ فى المجتمع، لم نشاهد سوى ما نعرفه، وفى أحيان كثيرة أقل مما نعرف، أقل وأضعف مما تقدمه الفضائيات ونعيشه نحن فى الشارع، شاهدنا فى هذه المسرحيات أقل مما نعرف وبتقنيات أضعف من صورة الفضائيات على خشبة المسرح وبأسلوب بائس يخلو من الروح التى عاشها من شارك فى الحدث، فأين مسرح الثورة إذن ؟ ما حدث ليس سوى خروج بملابس المسرح للتوقيع فى دفتر حضور الثورة، وللأسف كانت الملابس مهلهلة، فقيرة، حافلة بالرقع ومليئة بالثقوب!
فلم تكد تبلغ الثورة من عمرها إلا أسابيع قليلة ،إلا وكان لها مسرح وشعراً ورواية ويوميات وفلسفة ومستقبل مضمون ومعروف سلفاً! وكأنها انتهت منذ سنوات، وكأن الثورة هذه شجرة اختطف الجميع ثمارها خطفاً ..نعم هذا ما حدث وكأننا نحلم، فبعد جمعة الغضب 28 يناير 2011 وزوال الخطر، خطر حكومة مبارك التى أصبحت فى تلك الليلة بلا أنياب، عُقدت الاتفاقيات السرية والعلنية وخرجت فصائل سياسية ودينية بملابس الثورة إلى مسرح الأحداث، خرج السياسيون بملابس المسرح، وخرج المسرحيون بملابس الثورة، وكلاهما خرج بملابس مستعارة! وفى النهاية فشل الجميع، أدب الثورة ومسرح الثورة وفن الثورة وقادة الثورة وفلاسفة الثورة من ازدحمت بهم شاشات الفضائيات، فالجميع حاول اختطاف الثورة من فم الشعب لصالحه، كل بأسلوبه وما يملك من وسائل، فلم يختلف المسرح المخادع عن التدين الزائف عن النضال الكاذب، بل إن المسرح المخادع الذى تم تقديمه فى تلك السنوات هو امتداد للتدين الزائف الذى عاشته مصر منذ سبعينات القرن الماضى واستفحل أمره فى العقد الأخير قبل يناير 2011، فرغم ملابس الثورة التى تزين بها إلا أن جوهره يخبرك بأنه يستخدم كل أدوات وأساليب ماقبل الثورة فجاء مسخاً مشوهاً، أو قل ثوباً جديداً يمتلئ بالرقع القديمة.
وبعيداً عن مخططات الربيع العربى فإن ثورة يناير هى ثورة اجتماعية، ثورة الفقراء والمقهورين، ثورة ملايين الفقراء وملايين الجوعى وليست ثورة السياسين أو النخب المثقفة من الأدباء والفنانين، لذلك لم تكن منظمة، بل تحكمها العواطف والاحتياجات لا الأهداف المحددة ، ولذلك أيضاً لعبت بهذه الثورة كل الأطياف السياسية، وكاد الشعب يذهب ضحية أطماع الساسة والمثقفين لولا تدخل الجيش، فقد نجونا من الحرب الأهلية، ولم يصبنا سوء كما عصف بعدد من دول المنطقة وشرد الملايين وقتل الآلاف، نعم نجونا لوعى الشعب المصرى وطبيعته الطيبة ولإنحياز الجيش للشعب، وفى كل الأحوال تراجعت الثورة إلى الكواليس وفقدت بريقها وأهميتها وأصبحت فى أرشيف الذاكرة!
لذلك كانت الثورات تلعب دور البطولة فى مسرح الواقع العربى فى السنوات الأولي، وفجأة اختفت وتوارت كما اختفى وتوارى مايعرف بمسرح الثورة لصالح الحروب والمذابح بكل توابعها التى أصبحت البطل الرئيسى فى المشهد، إذ أصبح الحديث عن مسرح الثورة أو ذكرها وأحداثها على خشبة المسرح فى العام الرابع 2014 أمراً يدعو إلى السخرية، فالميادين والشهداء والشعارات التى احتلت الفضاء المسرحى فى عشرات العروض فى العامين الأول والثانى للثورة 2011، 2012 ثم تراجعت فى العام االثالث، وكادت تتلاشى فى العام الرابع .
فهل كان من الممكن أن يتوقف المسرح بعد الخامس والعشرين من يناير ويراجع نفسه، هل كان لزاماً عليه أن يقدم عشرات العروض، بالطبع كان لابد أن يفعل هذا، أى يختطف ثمار الثورة قبل أن تنضج ، لأن الجميع قادم من ثقافة الخطف هذه فكان غايته المصلحة الشخصية، كان غايته خطف المكاسب والثمار، لذلك جاء العام الرابع للثورة وقد اختفى هذا النوع من المسرح وتوارى خجلاً كمن يعتذر أو يتبرأ من فعل مشين!