لم يكن خافيًا خلال الفترة الماضية محاولات المسرحيين لحفظ ذاكرة ثورتهم؛ فقدموا مسرحا وثائقيا، تميزت عروضه جميعها بالمستوى الفني الباهر. ورغم تباين المعالجات التي تناول من خلالها المسرحيون أيام الثورة، إلا أنها في مجملها سردت وقائع شخصية وعامة من الميدان، وحتى الذين لجأوا إلى التاريخ كانت حكايات الميدان حاضرة في أعمالهم، ورغم الاختلاف حول عروض "مسرح ما بعد الثورة"، إلا أن تقديمها كان ضرورة. يأتي هذا وسط تساؤلات حول: ألم يكن من الأجدى الانتظار حتى تكتمل التجربة أو حتى تبدو بعض ملامحها، ثم يتم التأريخ لها مسرحيًا؟ فيما يري آخرون أن المسرح كان لابد أن يواكب الثورة ويشارك قدر المستطاع في هذه اللحظة التاريخية النادرة. وبعيدا عن المستوى الفني، فقد حفظت هذه العروض ذاكرة الثورة من خلال سرد تفاصيل الوقائع اليومية لأيام الميدان من وجهات نظر مختلفة وبطرائق وأساليب متعددة؛ الأمر الذي دعا عددًا من المسرحيين للمطالبة بضرورة تسجيل هذه العروض بواسطة المركز القومي للمسرح لتكون وثيقة درامية لهذه اللحظة النادرة في تاريخ مصر. ومن خلال مشاهدة عدد كبير من العروض سواء من إنتاج البيت الفني للمسرح أو الثقافة الجماهيرية أو المسرح المستقل، فيمكن القول بأن نجاح هذه العروض فنيا ارتبط بقدرة المخرجين وخبراتهم في معالجة المادة الوثائقية وتفاوت المستوى الفني طبقا لخبرة المخرج وحرفيته، والنقطة الثانية هي تشابه المادة المعروضة من خلال تجسيد وقائع الثورة على خشبة المسرح. وهذا أمر طبيعي لأن المصدر واحد، واللحظة تاريخية ونادرة، دفعت شباب الميدان للتعبير عن فيض المشاعر الذي اجتاحهم، فلم يفكر أحد في المعالجة الفنية بقدر التعبير عن المشاعر والمشاركة في الحدث. ويقول يسري حسان رئيس تحرير جريدة "مسرحنا": لم يفكر أحد في هوية المسرح المصري قبل وبعد الثورة, فالجميع اتفق على مصالحه الشخصية دون التفكير في أزمة المسرح التي يعاني منها منذ عدة عقود، فثمة حرب على إثبات الذات والحق في التواجد؛ فأثناء الثورات وبعدها تقف الأمم عند مفترق الطرق؛ فمناخ الثورة يهيئ الظروف الجيدة للمسرح وتاريخياً. حدث هذا كثيراً وآخرها والأقرب لنا بعد يوليو 1952 وبما أن الأمم تتساءل أي الطريق يسلكون في هذه اللحظات؛ فمن المفترض أن ينسحب هذا على المسرح وقد تخيلت بالحماس الساذج الذي انتابني أيام الثورة أن المسرحيين في مصر سيسألون أنفسهم في أي طريق يسير المسرح المصري، خاصة أنه في السنوات الأخيرة أصبح بلا هوية يتخبط في كل الاتجاهات. ويضيف حسان، بأنه لم يفكر أحد في هوية المسرح المصري بعد الثورة، وأين يسير، وفي أي اتجاه؟ فالمؤسسة الرسمية تتحكم تقريبا في العملية الإنتاجية حتى للفرق المستقلة بصورة أو بأخرى؛ فبعد ثورة يوليو تعالت الصيحات وطرح المسرحيون أسئلتهم حول هوية المسرح المصري وكتب توفيق الحكيم كتابه "قالبنا المسرحي"، وكتب يوسف إدريس مسرحية "الفرافير" مع مقدمة عنوانها: نحو مسرح مصري وشارك المسرحيون وقتذاك في الجدل؛ وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع النتائج، إلا أن هؤلاء طرحوا السؤال الذي يتناسب والتغيير الذي أحدثته الثورة، أما ما يحدث الآن، فهو ترقيع الثوب القديم برقع جديدة فيصبح مسخا مشوها فالمشكلة عامة وجوهرية ولا يصلح مناقشتها بالتجزئة. ويتابع: سنتفق أن الأزمة التى عانى منها المسرح قبل الثورة كانت السبب الرئيسي في ضعف مستوى العروض التي تناولت هذا الحدث؛ فقبل يوليو 1952 كانت مصر تعيش ازدهارا مسرحيا رغم تعرضه لأزمة مادية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن العقود الثلاثة التي سبقت تلك الفترة كانت من أزهى فترات الازدهار فساعد هذا دون شك علي إضاءة الطريق بعد يوليو 52، وهذا ما افتقده مسرح ما بعد ثورة يناير، التي جاءت والمسرح المصري يحتضر فنيا وإداريا. ويؤكد حسان علي أننا إذا تأملنا العروض التي قدمتها الجهات المختلفة بعد الثورة؛ سواء كانت مستقلة او حكومية، فسنجد أنها تشابهت، ولكن رغم كل التحفظات على هذه العروض إلا أن شيئا جديدا يحدث؛ فعلى الأقل تم نزع الخوف وإلى حد كبير تخلص المسرحيون من الرقيب الداخلي فثمة جرأة في هذه العروض لم تكن موجودة من قبل. وهذا ما يحتاجه المسرح، حيث ستخلق حالة من الجدل والصراع، وآفاقا جديدة يرتديها المسرح بعد الثورة ربما لم تتبلور بشكل واضح ولكن في المستقبل ستختلف الأمور دون شك.