منذ سقوط حكمها في مصر في يوليو 2013، واختيارها طريق العنف والصدام مع السلطة والمجتمع في مصر، تعاني جماعة الاخوان المسلمين من أزمة عنيفة لا تتمثل فقط في تدهور شعبيتها، ولا في سجن المئات من قادتها وكوادرها، بل - وذلك هو الأهم - في كيفية إداراتها لعلاقاتها الخارجية. وتتمثل مشكلة الجماعة في رسم سياسة خارجية ناجحة تعوضها عن خسارتها في الداخل المصري في عدة عناصر: ايديولوجيا الجماعة، وتزايد الاهتمام الدولي بقضية الإرهاب عامة والإرهاب الديني خاصة، وأزمة الاسلام السياسي إقليميا. وقبل أن نناقش هذه الأبعاد أو العناصر الثلاثة فى أزمة جماعة الاخوان المسلمين حاليا، من المهم أن ننبه الى العلاقة الطردية التى تؤيدها السوابق التاريخية بين عمق ازمة التنظيم فى الداخل وبين كثافة تركيزه على علاقاته الخارجية، وهو ما حدث فى الأزمات الثلاثة التى عانتها الجماعة بسبب صدامها مع الدولة المصرية، ففى الأزمة الأولى عقب قيام اغتيال الجماعة باغتيال رئيس الوزراء «النقراشى باشا» عام 1948 ردت الحكومة بحل التنظيم وقتل مؤسسه حسن البنا مما أدى الى هروب عدد من قياداته للخارج (وإن كان بشكل محدود)، وفى الأزمة التالية والتى وقعت بعد محاولة الجهاز الخاص- الجناح المسلح للجماعة- اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954 تم تجريم التنظيم والقبض على آلاف من أعضائه ومحاكمة وإعدام عدد من قيادته، وهو ما أدى فى هذه المرة لهروب أعداد كبيرة من كوادر التنظيم من مصر الى بعض بلدان الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، وبعض البلدان الأوروبية. وفى الصدام الثالث بين الدولة المصرية وبين الجماعة الإرهابية عام 1965 بعد الكشف عن تركيز الجماعة ممثلة فى أحد قياديها (سيد قطب) على العمل المسلح لقلب نظام الحكم لم تتمكن أعداد كبيرة من قادة التنظيم من الهرب خارج مصر وتأخرت هذه الخطوة الى ما بعد وفاة عبد الناصر عام 1970، وان كانت لفترة قصيرة أعقبها بدء عودة بعض القيادات الهاربة الى مصر عقب التحالف الذى أقامه الرئيس أنور السادات مع الجماعة لمواجهة معارضيه من اليساريين والناصريين، ويمكن أن نضيف أيضا هروب بعض قيادات الاخوان للخارج قبل اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة والتى استهدفت قيادات لتنظيمات جهادية ولم تستهدف جماعة الاخوان مباشرة أو بشكل صريح. فى كل هذه الأزمات كان نشاط الجماعة يتقلص فى الداخل فيما يتزايد خارجيا، وخلالها تتمكن الجماعة من إيجاد مأوى لقياداتها وكوادرها الهاربة كما تعوض الإقصاء الداخلى الذى تعرضت له بالتأكيد على بقاءها واستمرارها من خلال الاعتراف الدولى بها بأنها جماعة معارضة مصرية وليس تنظيما إرهابيا، ولكنها تتعرض فى نفس الوقت لخسائر بسبب نفس هذه العلاقات مع الأطراف الخارجية حيث تتزايد القناعات فى أوساط الشعب المصرى بأنها جماعة غير وطنية تستقوى بالخارج ضد بلادها، كما تخصم من رصيدها الايديولوجى ومصداقيتها حينما تلجأ خاصة لبلدان الغرب (أوروبا والولاياتالمتحدة) التى تقول عنها الجماعة انها بلدان تخاصم الاسلام والمسلمين وتضمر الشر لهما!! ويعنى ذلك تلقائيا ان إيواء هذه البلدان للإخوان لابد وأن يكون جزءا من هذا الشر، وفى الناتج الأخير تتحول الجماعة إلى جماعة وظيفية يتم استغلالها كوسيلة ضغط سياسي- من قبل الدول التى تفتح ابوابها امام قياداتها وكوادرها الهاربة- على الدولة المصرية، كما تعتبر مصدرا مهما للمعلومات التى تحتاجها استخبارات هذه الدول لمعرفة خريطة وتركيب وأنشطة الحركات الاسلامية عامة، وأيضا - وان كان توقعا فقط ولا يوجد معلومات تسانده - القيام بعمليات اختراق للمجتمع والدولة فى مصر. أولا: ايديولوجيا الجماعة تطرح جماعة الاخوان نفسها كجماعة دعوية تستهدف نشر الدعوة الاسلامية فى العالم، وتهدف- عبر عدة مراحل- الى استعادة الخلافة الاسلامية وصولا إلى ما اسماه حسن البنا «أستاذية العالم»، أى أنها تقر برفضها لفكرة الدولة الوطنية عامة وتستهدف قلبها والقضاء عليها، ولأن الجماعة لم تتمكن من نفى علاقتها بالإرهاب واستخدام العنف لتحقيق أهدافها رغم إصرارها على هذا النفى حتى اليوم، فإن الدول التى تأويها فى فترات تعرضها للمطاردة فى مصر تثق فى أنها تقدم عونا لجماعة يمكن ان تشكل خطرا داهما على أمنها مستقبلا بما يقتضى مراقبة أنشطتها، ومنع وصول تأثير هذه الأفكار الى مجتمعاتها. ويذكر يوسف ندا- القيادى الإخوانى الذى يعيش فى سويسرا منذ الستينات- ان الجماعة لم تتمكن من الحصول على ثقة الدول التى استقبلت قيادات وكوادر الجماعة فى الخمسينات والستينات من القرن الماضى حيث يقول فى مذكراته أنه «حين قامت الثورة الايرانية عام 1979 كان الاخوان يتحركون للعب دور فى تذويب العلاقات العدائية بين ايران وكل من مصر ودول الخليج إلا ان ذلك لم ينجح لأن الموقف كان معقدا» فقد كان الاخوان فى نظر ايران عملاء يعملون لحساب العراق أو المملكة السعودية أو الإماراتالمتحدة أو لحساب مصالحهم الجشعة... وعلى الجانب الأخر وبدرجة أشد كانت السعودية ودول الخليج والعراقوالولاياتالمتحدة وفوق ذلك الحكومة المصرية جميعها تعتبر الاخوان يرفعون نفس راية ايران». أما فى دول الغرب التى فتحت بدورها ابوابها امام الاخوان منذ عقد الأربعينات من القرن الماضى فقد كانت تشعر بالقلق من انتقال الأفكار المتشددة للاخوان تجاه فكرة الدولة الى مواطنيها المسلمين، وهو ما اضطر الجماعة خاصة فى أوقات أزمتها الى نفى وجود تنظيمات إخوانية على أراضى هذه الدول ونفى وجود تنظيم دولى للإخوان، زاعمة انه مجرد كيان فضفاض عبارة عن لجان تنسيقية بين أفرع جماعة الاخوان (حسب ما هو منشور فى الموسوعة التى تنقل ما يكتب عن التنظيم علي موقع www.ikhwanwiki.com)، ولكنها- أى الموسوعة - تؤكد ان هذا “التنظيم” أو هذه “اللجان التنسيقية هو الذى يتولى دور محاولة إقناع الغرب بأن الاخوان تطوروا فى اتجاه تبني منظومة القيم الحديثة وانهم قبلوا بالتعددية الثقافية والديمقراطية وحقوق الانسان” اذ تذكر الموسوعة ان الكيان الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، هو الذى اعتمد رؤية الجماعة فى قضايا التعددية السياسية والأحزاب ودور المرأة وغير المسلمين، دون أن تهتم بإيضاح هل كان ذلك يعنى تغيرا حقيقيا فى ايديولوجيا الجماعة، أم انه مجرد تكتيك يراعى احتياج الجماعة لبلدان الغرب لحظيا. وعلى الرغم من ذلك، أضرت ازدواجية الخطاب لدى جماعة الاخوان بين ما يتم توجيه للداخل (استمرار الفكر المحافظ للجماعة) وبين ما يتم تبنيه امام العالم الخارجى (الأفكار الأكثر معاصرة وانفتاحا) بوضع ومكانة الجماعة فى الداخل دون أن تحقق هدف الحصول على ثقة الخارج حيث تفادت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدةالامريكية وصف ثورة 30 يونيو بأنها «انقلاب عسكري» كما يريد الاخوان، كما لم تقم بفرض عقوبات واسعة ضد مصر، وان كانت ايضا لم تذهب فى اتجاه اعلان الجماعة كجماعة ارهابية مثلما فعلت مصر وبعض بلدان الخليج، وهو ما يؤكد على عدم ثقة الغرب فى الجماعة وعدم استعداده لدعمها إلى حد تبنى رؤيتها لنظام الحكم بعد 30 يونيو. ثانيا: تزايد الاهتمام الدولى بقضايا الارهاب تأتى المواجهة الجارية بين جماعة الاخوان والدولة المصرية حاليا فى اطار بيئة دولية تضع قضية مكافحة الارهاب على رأس أولوياتها، وعلى الرغم من ان الولاياتالمتحدة وبلدان أوروبا يرفضان مساواة جماعة الاخوان بالجماعات الارهابية مثل تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها، إلا أنهما فى نفس الوقت يبدون الاستعداد للاستجابة لضغوط بعض الدول التى تطالب بوضع الاخوان فى قائمة الجماعات الارهابية، وهو ما فعلته بريطانيا فى مارس من العام الماضى عندما شكلت لجنة حكومية لفحص أنشطة قيادات ومؤسسات خاضعة لجماعة الإخوان، ومعرفة مدى تحول العاصمة البريطانية لندن الى مقرا لأنشطة «التنظيم الدولي» للاخوان. وسواء أظهرت التحقيقات صحة او خطأ وجود أنشطة غير مشروعة للاخوان فى بريطانيا فإن ذلك يعد مؤشرا على أن ثمة قيود ستفرضها الحكومة البريطانية على اتباع الاخوان فى أراضيها، أو ستضطر الجماعة الى فرضها على نفسها حتى لا تستفز السلطات البريطانية، أو تعرض مصالح بريطانيا وعلاقاتها مع بعض الدول مثل السعودية والإمارات للخطر، ومن المتوقع ألا تكون هذه التداعيات مقصورة على بريطانيا وحدها بل ربما تمتد لمعظم البلدان الاوروبية والولاياتالمتحدة، الأمر الذى يحرم جماعة الاخوان من الاستفادة من علاقاتها الخارجية لتقليل خسائرها فى الداخل المصري. ثالثا: أزمة الاسلام السياسى إقليميا تحتل جماعة الاخوان المسلمين صدارة القوى المعبرة عن الاسلام السياسى إقليميا ودوليا، وعلى حين ان الجماعة ما زالت تحظى بدعم قوى من جانب تركيا إلا انها فقدت تأييد إمارة قطر المطلق لها بشكل جزئي، نتيجة ضغوط السعودية والإمارات، وبالتالى فإن العلاقات التركية - الإخوانية تبدو انها الملجأ الاخير للجماعة حيث لا يزال الرئيس التركى رجب طيب أردوغان يهاجم الدولة المصرية ويصف نظامها الحاكم بأنه نظام انقلابي، كما أن تركيا باتت الملجأ البديل لقيادات الاخوان الهاربة بعد ان تخلت عنهم قطر مؤخراً، فضلا عن سماحها بعقد اجتماعات ما يسمى «بالتنظيم الدولي» فى أراضيها، وإطلاق مؤسسات إعلامية تستهدف التهجم على مصر من داخل أراضيها. غير أن جماعة الاخوان لا يمكن لها ان تراهن على علاقتها المتميزة بتركيا لمواجهة خسائر حظرها فى مصر وبعض دول الخليج، ومحدودية الحركة المفروضة عليها فى بلدان أوروبا، فتركيا تعانى من تأزم علاقاتها بدول الخليج المؤيدة لمصر والتى تتعامل مع الجماعة على انها جماعة ارهابية، وهو ما يرتب خسائر اقتصادية وسياسية وثقافية لن تتحملها تركيا لفترة طويلة، كما ان خطابها المعادى لمصر والذى يتمحور حول مقولة ان النظام فى مصر هو نظام قام على أكتاف انقلاب عسكري، وان ممارساته ضد جماعة الاخوان هى قمع لمعارضة سلمية لا يتسق مع ما تمارسه تركيا من تقييد لحرية الصحافة أو مواجهة المتظاهرين السلميين فيها بالعنف، بل أن الشكوك تحيط بعلاقة أنقرة بجماعات ارهابية مثل داعش والنصرة فى سوريا... وكلها نقاط تثبت تناقضات السياسة التركية وتكشف مدى ازدواجية المعايير التى تستند اليها، وهو ما يجعل من قبولها إقليميا ودوليا وربما محليا أمرا صعبا وبالتالى يزيد من عزلة تركيا والتى ستفكر كثيرا فى مرحلة لاحقة فى مدى صحة سياستها حيال مصر وجماعة الاخوان. من خلال الاستعراض السابق يمكن القول إنه اذا كان صحيحا ان الاخوان ليس أمامهم سوى التركيز على العلاقات الخارجية للجماعة لتخفيف اثار أزمتهم فى الداخل المصري، فأن العلاقات الخارجية لهم لا تبدو كبديل حقيقي، بل أن هذه العلاقات قد تؤدى الى مزيد من الخسائر مهما ظلت بلدان الغرب على موقفها المتوازن بين الدولة المصرية وجماعة الاخوان، ومهما ظلت تركيا على عدائها المطلق لمصر.