النسيم منعش هذا الصباح. نوارس تتشمس على ضفاف القصباء. شجر يزهر بالبرتقالى والأصفر والبنفسجى. خرير المياه من برك الحدائق اليابانية الصغيرة يتدفق بلطف على الصخور البيضاء المكورة الملساء. كانت السماء قد اتشحت بشال ألوانها فجرا وتبدت الشمس بدفء رقيق يحمل العافية معه. ثم أن السحب تأتى وتذهب. هناك سكون يحمل السلام بين تلك الأصوات. كل شىء يولد من السكون: الفجر من سكون الليل, الطفل من رحم الأم, الكون من أمر كن فيكون, وكل شىء ينتهى فى أو على السكون: الحياة بصرختها, الحزن والغضب فى أوجه والحب بكل أشكال وهجه. السكون-السكينة. يكتب إيكهارت تول الألمانى كتابه السكون يتحدث, وقد اشتهر بكتابيه السابقين قوة الآن, والأرض الجديدة. إيكهارت تول باحث فى الحكمة ومتأمل حديث خارج المؤسسات الدينية والروحية. يمتلك منهجا فى التفكير والتأمل الروحى الذى يسعى للصفاء الروحى للإنسان ويضرب بجذوره فى البوذية والصوفية وفلسفة التاو والزن. السكون يتحدث كتاب لا تقرأه مرة واحدة بل على دفعات. ذلك أنه كتاب وكلمات وحال للتأمل. يهدف لا إلى تعليم القارئ بل إلى إزاحة ذلك الذى يفصل بينك وبين الحقيقة التى تعرفها فى أعماقك. إنه كتاب للاستجلاء وهو يستخدم كلمات من خلال القراءة تصبح أفكارا فى العقل. يبدأ كتابه بفصل عن الصمت والسكون أى السكينة. يدور حول أن الإنسان عندما يفقد الصلة بسكونه الداخلى يفقد الصلة بذاته. وحين يفقد الصلة بذاته يفقد نفسه فى ضجيج وضوضاء وضياع العالم. انظر إلى شجرة, وردة, نبتة, دع وعيك يرتاح عليها. كم هى ساكنة وعميقة التجذرفى الوجود.إسمح للطبيعة أن تعلمك ماهية السكون. ما هو أبعد من العقل المفكر هو فصله الثانى . معظم الناس يقضون حيواتهم سجناء لأفكارهم. إنهم لا يستطيعون الإفلات من قبضة الماضى على نحو شخصى وعام ويسردون ذواتهم على أنها قصص حدثت وتحدث ويصدقون ذلك ويتصرفون بناء عليه. الأفكار هى مجرد أفكار وكذلك الهواجس والقصص التى نسجن ذواتنا فيها. التعصب والتحيز اللذان يؤديان إلى الكراهية والعنف والحرب هى مجرد أفكار معظمها من الماضى ومعظمها قصص سردت وصدقتها النفوس وعاشت فيها ونسيت لحظة الآن وذلك الفيض من الحكمة الذى يأتى من التوحد مع اللحظة والتأمل وإفراغ الرأس من سيل الكلمات والتسليم بأن الماضى والمستقبل هما أفكار والحقيقة واحدة هى الحاضر-الآن. إن اليقظة الروحانية هى اليقظة من حلم الأفكار. لا شىء يأتى ويذهب هو أنت.أنت المعرفة ولست الحالة التى قد عرفت. إن قوة وذكاء وخلق أعظم منك, وهو أيضا واحد معك, هو الذى يتبدى لك فى السكون والسكينة. ثم ينتقل إلى توصيف الذات المتضخمة والمتورمة. أنا وقصتى, تلك الأنا التى تحب وتكره, تخاف وترغب, الأنا التى لا ترضى ولا تشبع أبدا. تلك النا تختلف عن الرائى بداخل الإنسان الذى يتجاوزها ويراقب من منطقة السكون. الأنا الأعمق التى تتجاوز الماضى والمستقبل والرغبة والخوف. ما الذى يبقى منا,خط صغير فاصل بين تاريخين: تاريخ الولادة والوفاة. الآن هو الموضوع. إن تقسيم الحياة إلى ماضى وحاضر ومستقبل هو حالة ذهنية مصطنعة ووهمية. الماضى والمستقبل مجرد أشكال فكرية, مفاهيم ذهنية, والماضى يمكن تذكره عبر الحاضر فقط. والشىء الحقيقى الوحيد هو الحاضر, الآن. أنا لست الأفكار, بل أنا الحياة كما هى ولحظات السكون بين الأنفاس. أن تجد نفسك هو أن تجد كامل الحياة بداخلك ولا شىء غير هذا يهم. كل ما هو عابر لا يهم. أنت ذلك الوعى الذى يتجاوز الكينونة المتصل بما هو أكبر منه بكثير. ومع ذلك يأتى التسليم بما يحدث ويصبح الإنسان هو السلام الحى. القبول والتسليم أهم سلوك للنفس فى هذه الحياة. دع الحياة لشأنها, دعها تكون. الطبيعة تعلمنا الطريق إلى البيت. الأشجار والكائنات الأخرى. كلها فى إتساق مع نفسها ومع الكون وخطة الحياة القائمة. تنمو فى السكون وتمنحنا الحياة فى حياتها. نحن لسنا منفصلين عن الطبيعة, بل نحن الطبيعة أيضا, وكل فصل هو مصطنع وقسرى وضار بحياة الإنسان وافكاره. إن المعاكس لمعنى الموت هو الولادة. الحياة لا معاكس لها. الحياة أبدية. الوجود الإنسانى يشبه الحياة فى حلم. وحين ترى وتقبل الطبيعة العابرة لكل أشكال الحياة يتسلل إليك إحساس غريب بالسلام الذى يقيم فيك. إيكهارت تول يقدم شرحا للسكون والتسليم واتحاد الذات بالكون وتجاوز العابر إلى الأبدى والمعنى الحقيقى للحياة خارج إطار سرد الماضى وعذابات الرغبات والمخاوف. يكتب حكمة هى أقرب للصوفية والتسليم بأمر الخالق. حسنا, جاءت لحظة الغروب وتلونت السماء من جديد وهبط الليل بسكونه وهدوءه والحياة التى تعيش فى ذلك السكون.