- إيكهارت تول كاتب ألمانى «روحانى» تم اختياره أكثر من مرة كأهم الروحانيين الأحياء على الإطلاق، له فلسفة ورأى متعلق بمفهوم الحاضر الذى يمثله بالكلمة «الآن»، وهناك اهتمام متزايد بهذه الفلسفة فى الآونة الأخيرة وتم عقد الكثير من المنتديات والمؤتمرات لمناقشتها، سواء تأييداً لها أو نقداً، وهناك من ربطها بآراء الفيلسوف نيتشه حول الماضى ودوره فى الحاضر والمستقبل، وتتلخص هذه الفلسفة فى قول إيكهارت: إنه لا شىء نملكه سوى الآن ويمكن اعتبار الآن ليس بمعناها الحرفى أى هذه اللحظة فقط، بل دعونا نعتبر أن المقصود بها: الحاضر قصير المدى، غير المرتبط بشكل مبالغ فيه بالماضى أو المستقبل، يعتبر إيكهارت أن تقسيم الزمن ل: ماضى - حاضر - مستقبل، هو نوع ما عبارة عن وهم تفكيرى من الناحية العملية، فالماضى والمستقبل لا يمكن أن يكونا سوى أفكار، فالإنسان لا يملك الفعل إلا فى حاضره، فعندما نفكر فى الماضى أو المستقبل فنحن نفكر فيه ونحن فى «الحاضر»، الحاضر هو الواقع المعاش الذى عن طريقه يمكننا استحضار الماضى أو المستقبل فهو الأساس والحقيقة، والماضى والمستقبل عبارة عن شكل من التفكير، سواء فى ذكريات أى «الماضى» أو فى توقعات أى «المستقبل»، والماضى عندما حدث فإنه حدث سابقاً فى «الحاضر» والمستقبل عندما سيحدث فإنه سيحدث فعلياً فى «الحاضر»، إذن الشىء الحقيقى الذى كان ولطالما سيكون هو «الحاضر» فيه حدث الماضى وفيه سيحدث المستقبل. - التعامل مع الحاضر وتقديره لا يعنى أنه هروب من الماضى أو تنازل عن حقوق مرتبطة به أو عدم معاقبة أشخاص وجهات ارتكبت جرائم فيه أو عدم الاستفادة من دروسه وخبراته والبناء عليها، كما أنه لا يعنى إهمال المستقبل وعدم التخطيط له أو العشوائية فى إدارته، فقط المسألة مسألة أولويات، فالحاضر يجب أن يكون فى مقدمة أولوياتنا من حيث التفكير فيه والسعى إلى إصلاحه والتخطيط لمواجهة تحدياته، ولا يصح أبداً أن نتعامل معه على أنه عقبة نسعى للتخلص منها سواءً بالهروب للذكريات أو للتوقعات والاستغراق فيهما، بل علينا أن نتصادق مع الحاضر وندرك أنه الحقيقة ونعيش فيه، ولا بأس أن نقوم ببعض الزيارات للماضى خاصة ما هو مرتبط بالحقوق التى حتماً لا تسقط بالتقادم أو ما هو مرتبط بالدروس المستفادة منه، وكذلك لا بأس أن نقوم بزيارات إلى المستقبل وبصفة خاصة التخطيط ودراسة التحديات والاستعداد لها، لكن ليس العكس، بمعنى يجب ألا نعيش فى الماضى والمستقبل ونقوم ببعض الزيارات لحاضرنا كما يحدث الآن مع الأسف فى بلدنا، فمثلاً فى مسألة المستقبل: إن العيش بنمط حياة يعتمد على التفكير المطلق فى المستقبل يفسد علينا الحاضر، لأنه من طبيعة العقل أن يطمح ويتوقع ويرسم لمستقبل جميل وهذا ينشىء نوعاً من عدم الرضا والقلق والسخط على الحاضر وهذا بحسب إيكهارت طريقة غير صحيحة للحياة، لأنه لا يقدّر قيمة الحياة التى هى فى الحقيقة «الحاضر» وإفساد المضمون الذى فى يدنا بواسطة غير المضمون هو تفكير خاطئ وحتماً يفسد الحياة، نفس الأمر ينطبق على الماضى والعيش بذكريات الماضى، سواءً الحزينة التى تفسد مزاجنا وتجدد أحزاننا أو السعيدة التى تجعلنا نعتقد أن واقعنا مزرٍ مقارنةً بها، عندما نقدّر قيمة الحاضر ونفهم أن نعيشه بكل طاقتنا بعيداً عن أعباء وذكريات الماضى أو الخوف من المجهول والمستقبل فنحن وكأنما نستيقظ من حلم، حلم الأفكار المتمثلة فى الماضى والمستقبل كما يستيقظ الحالم من النوم ليجد أنه لا حقيقة سوى حاضره، وأن ما كان يعيش فيه ليس له وجود حقيقى، إذن من الجنون أن نستمر باسترجاع ومقاومة شىء حدث فعلاً وانتهى، إذ لن تغير مقاومتنا أو اهتمامنا المستمر به من حقيقة أنه حدث ولن نستطيع تغييره، كما أنه من غير المنطقى التعامل والاهتمام بشكل مبالغ فيه مع شىء لم يحدث وقد لا يحدث. - وأنا أعرض هذه الفكرة على القارئ الكريم لأنى أشعر أن هناك إصراراً من البعض على أن يظل بلدنا يعيش فى الماضى وما حدث فيه من أحداث، وكلما أردنا أن نتحرك إلى الأمام ونعيش واقعنا بتحدياته، يصر هؤلاء على دفعنا بكل قوة إلى الماضى وإغراقنا فى الأحداث التى وقعت فيه بصورة لا تلهينا فقط عن الحاضر وإنما تفسده علينا، ويدّعون أنهم يفعلون ذلك من أجل الحفاظ على الحقوق، وهم فى الحقيقة يتاجرون بالماضى، لأنه لا مكان أو قيمة لهم فى الحاضر، وهم بإصرارهم هذا ليس فقط يضيعون حقوق ومظالم الماضى ولكنهم يتسببون فى المزيد من المظالم ويقطعون الطريق على أى محاولة لاسترداد الحقوق أو إصلاح الحياة.