لا اعتقد أن المخابرات الأمريكية بعيدة عن سلسلة الأحداث الإرهابية التى حدثت فى فرنسا مؤخرا منذ الهجوم الإرهابى على صحيفة شارل ايبدو وذلك بالنظر إلى الواقع الدولى وملابساته وحركة التفاعلات التى تعد مصر أحد اللاعبين الأساسيين فى تحريك تلك التفاعلات منذ الثورة الشعبية فى 30 يونيو، كما أن المشهد الفرنسى كأحد أهم حلفاء الولاياتالمتحدة الآن فى حربها الكاذبة على داعش ليس ببعيد عن اخفاقات الخارجية الأمريكية فى قيادة دفة المجتمع الدولى وفق مصالحها . فعلى مستوى الجانب الأمريكى فالاطاحة بنظام الإخوان المسلمين كأحد أهم الادوات الأمريكية سبب ارتباكا شديدا فى الاستراتيجية الأمريكية وقد تنامى هذا الارتباك بسبب عجز الادارة الأمريكية عن تقديم التصور البديل للمنطقة ولتفادى هذا العجز لجأت إلى مناورة من خلال داعش الإرهابى للقيام بما كان مرتبا للإخوان أن يقوموا به لانقاذ ما يمكن انقاذه من هذه الاستراتيجية المنهارة . إننا بوضوح أمام تكتلين رئيسيين روسياوالصين فى جانب والولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبى فى جانب آخر وهذا يعد اعادة تدوير للصراع القديم بين حلف وارسو والناتو ولكن وفق الصيغة التى تتلاءم ومآلات الواقع الدولى الجديد وما افرزه من أوزان نسبية جديدة للقوة ومحددات جديدة للعلاقات الدولية وهذا هو الاطار العام لمحددات العلاقات الأمريكية الأوروبية بشكل عام . ولكن السياسة الخارجية الأمريكية لما تتسم به من سطحية وغباء يبدو أنها لم تحتسب بدقة لامرين، أولهما أن الاتحاد الأوروبى يعتمد اعتمادا كبيرا فى واردات الطاقة على روسيا وخاصة المانيا – قاطرة التنمية فى الاتحاد وبالتالى فمن الصعب تصور ابتعاد اوروبا كثيرا عن الأحضان الروسية . الأمر الثانى هو ما يتعلق بتنامى الظاهرة الإرهابية داخل المجتمع الأوروبى بالشكل الذى يجعل أوروبا اكثر تفهما للطرح المصرى عن خطورة التنظيمات الإرهابية فى اطارها العريض والشامل وليس فقط داعش. انطلاقا من ذلك نأتى إلى الجانب المصرى فالرئيس السيسى حقق نجاحات كبيرة على صعيد مجابهة التحديات والمخططات الأمريكية عبر ثلاثة محاور رئيسية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المصرية، أولا : نجح الرئيس فى رفع القدرات العسكرية للقوات المسلحة عبر صفقات عسكرية مع كبريات الدول النشطة فى هذا المجال وعلى رأسهم روسيا بجانب الصين وحرص على نقل التكنولوجيا والتعاقد على حق التصنيع لرفع كفاءة الشق الهندسى للقوات المسلحة بخلاف التدريبات المشتركة ونقل الخبرات هذا علاوة على تشكيل قوات الانتشار السريع لمجابهة التحديات الأمنية المستقبلية ليس فقط التى من المحتمل أن تتعرض لها مصر بل المنطقة العربية بما يعد تحولا نوعيا كبيرا . ثانيا : نجح الرئيس فى تجاوز الأزمة الدولية التى حاولت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى اقحام مصر فيها ، كما نجح فى تصدير صورة للدولة المصرية وفق منظومة قيمية تتسق والقيم العالمية وبما اجبر المجتمع الدولى على النظر إلى مصر بقدر كبير من الاهتمام للدور الكبير المنتظر أن تلعبه على صعيد السلم والأمن الدوليين . ثالثا : نجح الرئيس فى اكتساب حلفاء جدد لهم اسهامات فى الخريطة الدولية واخص هنا الجانب الخليجى والأوروبى ، فمن ناحية الخليج ادرك الرئيس المخاوف الخليجية من دعم الولاياتالمتحدة للإخوان المسلمين ومن ناحية أوروبا نجح الرئيس فى ابراز اهمية ما تمثله مصر والدول العربية الواقعة على البحر الأبيض بالنسبة لأوروبا باعتبارها العمق الاستراتيجى لها، وليس ادل على ذلك مما اعلنته فرنسا فى المؤتمر الصحفى الذى عقده الرئيسان المصرى والفرنسى حول دعم فرنسا الكامل لمصر فى حربها ضد الإرهاب وتوافق وجهتى النظر المصرية والفرنسية فيما يتعلق بأزمتى سوريا وليبيا الأمر الذى يعد ضربة موجعة للتحالف الأمريكى الأوروبى تضاف إلى الضربات الروسية فى نفس الاطار من خلال ورقة النفط . نخلص من ذلك أن الولاياتالمتحدة ليس فقط تفتقر إلى استراتيجية واضحة تجاه المنطقة العربية عقب مآلات الواقع الدولى الجديد وإنما تعانى أيضا ارتباكا فى الآليات اللازمة لتحقيق الانجاز المأمول من مناورتها عبر الحرب على داعش، وفى الوقت الذى تلملم فيه الولاياتالمتحدة أوراق الخريطة الدولية المتبعثرة من بين يديها ، تأتى فرنسا أهم دولة فى التحالف الدولى للحرب على داعش لتحاول الفكاك من الشراك الأمريكية لتتصرف باستقلالية ولتزيد الخناق على الولاياتالمتحدة التى تصارع الموت السياسى. انطلاقا من ذلك اتصور أن المخابرات الأمريكية تقف خلف تلك العمليات الإرهابية التى حدثت فى فرنسا مؤخرا للضغط على فرنسا لاستمرار مشاركتها العبثية فى الحرب على داعش ، ولكن اوباما يهرول صوب الفشل و يحاول محاولات حثيثة للقضاء على ما تبقى من نفوذ وقوة لدى بلاده فهذه العمليات الإرهابية التى حدثت فى فرنسا اتصور أن تزيد التباعد القائم بينها وبين الولاياتالمتحدة فى مقابل مزيد من التقارب مع المنطق المصرى فى المواجهة الشاملة لتسجل الخارجية المصرية هدفا جديدا فى المرمى الأمريكى .