لا أريد أن أحصى كم من السنوات قد مر على ميلاد جمال عبد الناصر ، فهو المولود كقيمة وقامة فى كل يوم من أيام حياتى الشخصية . ومنذ أن قام بتأميم قناة السويس صار قلبى على هيئته ، ولم يمنعنى ذلك من أن أشده من صدرى بعيون خيالى لأعاتبه على قرار أو سلوك أحد المقربين منه أو المحسوبين على ثورة 23 يوليو ، ورغم ذلك أيضا .. لم أصف نفسى يوما بأنى ناصرى ، لأن وجدانى ضد الجمود ، فضلا عن كراهيتى لوضع نفسى فى أى إطار مهما يكن هذا الإطار. فضلا عن أن العالم صار خاليا من الساسة الكبار القادرين على قراءة المستقبل بعد دراسة إمكانات الواقع ، هؤلاء الذين امتلكوا مواهب خلاقة قادرة على التعبير عن أحلام شعوبهم، وبإمكانهم اكتشاف أكثر من طريق كى تصبح تلك الأحلام واقعا. أتذكر _ على سبيل المثال _ قامة جواهر لال نهرو الذى قام بتطوير أفكار غاندى واستطاع أن يؤسس دولة عقائدها متنافرة لتنسج منها صناعة وزراعة وتقدما علميا حتى وصل أبناء الهند فى أيامنا التى نحياها إلى درجة العمل من بلدانهم لوظائف كان المفروض أن يعمل بها أمريكيون ، ولن أنسى أنى حين كنت بواشنطون العاصمة الأمريكية ، وقابلنى خلل فى إرسال الإنترنت فاتصلت برقم تيلفون الشركة المنوط بها اشتراك المكان الذى أوجد به ، فوجدت من يرد على الهاتف ليرشدنى إلى خطوات إصلاح الاتصال بالشبكة العنكبوتية هو شاب يعيش فى نيودلهى ، لأن الشركة الأمريكية توظف أعدادا كبيرة من المتفوقين فى مجال الاتصالات فى الهند لأن أجورهم أقل بكثير عن أجر الأمريكى الذى يمكنه أن يقوم بهذا العمل . وكان هناك ومازال يوجد فيديل كاسترو وتوءم روحه أرنستو تشى جيفارا وقد أعلن كلاهما بفخر أنهما استلهما من عبد الناصر فجر الأمل الذى حلم به كلاها لأمريكا اللاتينية ، فاستقر كاسترو فى كوبا ومازال يعيش وقد جعلها بلا أمى واحد ، ودون جائع واحد ، وإن كان كثير من شبابها يحلم بسندويتش مبورجر من أى مطعم أمريكى ، وتشتاق شركات المياه الغازية لغزو كوبا بتلك المياه التى يلوثونها فى بعض مناطق الشرق الأوسط بمواد تسبب سمنة مبالغا فيها للأطفال. ولا أحد ينسى الحالم أرنستو تشى جيفارا الذى استشهد فى أكتوبر 1967 ليأتى عام 2006 فيرتقى إيفو موراليس ليصبح أول هندى أحمر رئيسا لبوليفيا هكذا تحول إخلاص ناصر لفقراء الكون إلى ملهم متعدد الآثار . اكتب ذلك وانا اعلم يقينا أن ما قاله صديقى الراحل الجميل الساخر محمود السعدنى عن جمال عبد الناصر أن عظمة ناصر لا تنبع فقط من رؤيته لحق الفقراء فى الحياة المقبولة ، ولكن لأنه صنع ثورته برجال لم يؤمنوا بيقين صادق بالحقائق البسيطة التى آمن بها ناصر ، فخطايا من منحهم ثقته قادت ثورته إلى أكثر من تهلكة . وكان الحلم دائما أيام ناصر أن نؤسس مجتمعا يقوده نموذج أساسه إيمان بأن يكون الواحد هو أول من يضحى وآخر من يستفيد . لكن الحقبة الناصرية ازدحمت بعديد ممن امتلكوا خصائص الفيروسات القاتلة ، حيث يتلون الفيروس على هيئة تقترب من شكل الخلايا ليهاجمها من بعد ذلك فى مقتل . ولن أعدد أسماء هؤلاء الرجال الذين اتخذوا شكل الفيروسات القاتلة . وإن كنت لا أنسى ما جرى فى ربيع عام 1965 ؛ حين دعانى أحد الضباط الأحرار وهو محمد زغلول كامل على الغداء فى محل أبو شقرة ، وكان المدعوون هم المقاول الأشهر فى ذلك الزمان ، ومعه إثنان ممن تم تأميم مملكاتهم ، أما من كان من يتصدر المائدة هو والد جمال عبد الناصر. وكان الهدف من الغداء هو كما قال لى الداعى «ضرور إبتعاد ذلك المقاول عن شخص والد عبد الناصر س . و أن يسمع والد عبدالناصر بأذنيه رأى جمال عبد الناصر من رفض مؤكد لعمله كعضو منتدب بإحدى شركات ذلك المقاول وأقرانه .وسمعت من فم ذلك المقاول كلمات تصف والد عبد الناصر بأنه ولى من أولياء الله الصالحين وقطب صوفى منحه الله شرف إنجاب زعيم لايبارى وأن الالحاح عليه ليقبل وظيفة راقية بإحدى الشركات فهو أن تحل بركته على أعمال ذلك المقاول . وانتهى الغداء باعتذار من والد ناصر عن أى وظيفة من وظائف شركات المقاول وأقرانه . ولا داعى لتذكير القارئ بأن هذا المقاول كان هو أحد الرعاة الأساسيين لإعادة ميلاد تنظيم المتأسلمين ، وأنه قام بتأليف كتاب حاول فيه قدر الإمكان تلويث تاريخ عبد الناصر نفسه . وعندما وقعت هزيمة يونيو 1967 ، تجولت مع نفس الصديق محمد زغلول كامل للقاء عدد من ضباط دفعة 1948 ، وهى الدفعة التى انتمى إليها شمس بدران وزير حربية الهزيمة ، وكان شمس قد وضع أكثر من فرد من أفراد الدفعة فى مواقع قيادية ، وكان زغلول كامل مكلف باستكشاف آفاق أفكار معظم أفراد تلك الدفعة ، وكان اللقاء مع يوسف صبرى أبو طالب وكان ضابط مدفعية رفض منذ بدايات الثورة ترك القوات المسلحة لأى وظيفة مدنية ، وكان خلاصة اللقاء بين زغلول كامل ويوسف صبرى أبو طالب هو جملة وحيدة هى «المقاتلون يحاربون دفاعا عن عقيدة وليس دفاعا عن شخص مهما علا تاريخه ، وناصر كشخص ليس عقيدة يمكن القتال بسببها ، ولكن أفكاره التى أطل بها على العالم الثالث هى أساس العقيدة التى يمكن الدفاع عنها» . أتذكر أن زغلول كامل دخل مكتب عبد الناصر وخرج فرحا لأن عددا لابأس به من أفراد دفعة 1948 أعلنوا الولاء لعقيدة تحرير الأرض لا للدفاع عن شخص ما مهما علت مكانته . وإذا مرت سنوات عجاف نمت فيها فيروسات وطحالب صارت قططا سمينة ، ثم تحولت إلى حيتان جائعة تلتهم أقوات المصريين وتلقى لهم بالأوهام ، حتى طفح الكيل ، فخرجت أجيال ترفض نزق الغياب عما يجرى فى الكون ، ونزق السباحة فى ترف أبله محاط بجوعى وجهلة من سكان العشوائيات ، خرجت الجموع فى 25 يناير لتقول للترهل السياسى ونزق الجشع «لا» لكن الجموع لم تتحرك بتنظيم سياسى له رؤية ، لذلك كان من السهل أن يركب المتأسلمون ظهر ثورة الخامس والعشرين من يناير ، لكن ضيق المصريين بطريق التخلف الذى شاءته جماعة المتأسلمين كان هو الدافع وراء إسقاط هذا التنظيم فى الثلاثين من يونيو مصحوبا بتفويض صدر من عموم المصريين فى السادس والعشرين من يوليو لعبد الفتاح السيسى ليقاوم غباء المتأسلمين الملتحف برداء الإرهاب . ولم يكن عبد الفتاح السيسى نسخة من عبد الناصر ، لكنه شرب التجربة ووعى الدرس بأن القائد هو من يستكشف أفكارا ويحشد للإيمان بها ، فإذا كان عبد الناصر قد وعى التفاف فقراء الفلاحين حول قطار جيش عرابى الذى حمل الجنود ليدفعوا عن مصر جحافل الاحتلال، فهزيمة عرابى أورثت عبد الناصر ضرورة السير بخطوات لصناعة العدل الاجتماعى سواء بالإصلاح الزراعى أو بالتأميم والتصنيع وبناء السد العالى ، وصناعة العدل الاجتماعى هى التى وهبت مصر قدرة على تأهيل مليون زهرة شبابها المتعلم ، وهم من كانوا أفراد جيشها الذى صنع معجزة نصر أكتوبر . وإذا كان عبد الفتاح السيس قد رفع شعار «تحيا مصر» كإطار لصيانة الوطن من إرهاب وتفكك ، لعلنا نخطو لتنمية تحقق عدلا اجتماعيا وكرامة إنسانية فى وطن مستقل ، إذا كان هذا هو شعارنا ، فها نحن نرى فرنسا تلتهب لدماء عدد من أبنائها اغتالهم التطرف المزروع بعناية أجهزة مخابرات الغرب ، ولعل الغرب يستوعب ان عبد الناصر والسيسى ليسا هما الخصمين اللذين يجب دحر أفكارهما ، لأن ناصر السابق كان قارئا لأحلام شعوب العالم الثالث ، ولو استوعب الغرب ذلك لما نما التطرف ليلسعهم فى مقتل ، وأن عبد الفتاح السيسى ليس حجر عثرة فى طريق الغرب ، ولكنه مقاوم قارئ لأحلام شعبه الحالم بالاستقلال والحياة المقبولة . ولذلك أقول فى عيد ميلاد ناصر : كل سنة وأفكار الشعب المصرى قادرة على إهداء العالم فكرة عن ضرورة العدل والكرامة معا . لمزيد من مقالات منير عامر