عندما نتحدث هنا عن شروط للتذوق أو التلقي الجمالي، فإننا نعني ضرورة فهم الضوابط والآليات التي تحدث في عملية التلقي بحيث يُعيننا هذا الفهم على حسن تلقي العمل أو استقباله، وهذا الفهم له أهمية كبيرة في ثقافة الأمم والشعوب؛ لأنه يسهم في تأسيس الوعي الجمالي. ويمكنني إجمال أهم هذه الشروط فيما يلي: شرط المسافة النفسية والمراد به أنه ينبغي أن تتحقق مسافة ما بين العمل الفني والمشاعر النفسية الذاتية لدى المتلقي. ولا شك أن هذا الشرط قد يُساء فهمه على أن موقفنا إزاء العمل الفني ينبغي أن يكون محايدًا! وهذا أبعد ما يكون عن الصواب: ذلك أن الفن يقدم لنا صورًا متخيلة وثيقة الصلة بأحداث حياتنا وواقعنا على نحو يستثير مشاعرنا بقوة، بل يجعلنا أحيانًا متوحدين نفسيًا ووجدانيًا وذهنيًا مع الحالة التي يستثيرها فينا العمل. ومع ذلك، فإن هذه الحالة تكون بمنزلة إغواء صادر من العمل ذاته، بمعنى أن المشاعر التي تحدث فينا ينبغي أن تكون صادرة من العمل الفني، وليس من الحالة النفسية أو الشعورية الخاصة التي قد نكون عليها عندما نلتقي بالعمل. فالشعور الجمالي ينبغي أن يكون شعورًا نقيًا pure emotion، بحيث لا تتسرب إليه مشاعرنا الذاتية التي تثيرها الأحداث والظروف الخاصة بنا: فعندما نتأمل- على سبيل المثال- طابع الحزن والشجن العميق في كونشرتو البيانو رقم 2 لرحمانينوف، فإننا ينبغي أن نتأمل هذا الحزن باعتباره صادرًا عن الموسيقى ذاتها؛ ومن ثم فإنه لا يكون حزنًا فعليًا أو واقعيًا، إنه حزن أو شجن موسيقي. ولذلك فإننا جميعًا كمتلقين للعمل الفني، ينبغي أن نذهب إليه في حالة من الإعداد النفسي والتهيؤ الكامل؛ وبالتالي لا ينبغي أن نذهب إليه ونحن في حالة نفسية أو مزاجية سيئة، حتى إن كان العمل ذاته مليء بالحزن والشجن؛ لأننا في هذه الحالة لن نكون قادرين على حُسن استقبال الحالة الشعورية الصادرة عن العمل، نقيةً خالصةً من التشويش الذي يمكن أن يصدر أو يتسرب إليه من أنفسنا. الثقافة الفنية وهي تعني أشياءَ عديدة؛ فهي ليست شرطًا له بُعد واحد، وإنما هي جملة من شروط مترابطة. ولكن أول شروط الثقافة الفنية وأهمها هو القدرة على تلقي العمل الفني استنادًا إلى معرفة وخبرة مسبقة تؤهل المتلقي لفهم العمل والمعاني المتضمنة في مظاهره، بحيث تتيح له الربط بينها لتشكل في النهاية سياقًا كليًا؛ وذلك من قبيل القدرة على فهم المعنى غير المباشر المتضمن في مظاهر العمل المرئية أو المسموعة في اللغة وصوتياتها. غير أن المعرفة أو الخبرة المسبقة لا تعني أن المتلقي للعمل تكون لديه مقولات جاهزة أو أُطر نظرية مسبقة يفرضها على العمل ويفسره من خلالها، وإنما تعني أن المتلقي ينبغي أن يكون على ألفة بالموضوع المراد تفسيره، بحيث يكون قد شغله من قبل، وأثار همَّه واهتمامه؛ ومن ثم أثار لديه أفقا من التساؤلات والتوقعات. وهذا هو معنى عبارة هيدجر البليغة العويصة: «إن أي تفسير يَهِب الفهم، ينبغي أن يكون قد فهم من قبل ما يُرَاد تفسيره». وعلى هذا؛ فمن المستحيل أن نتصور إمكان أن يفهم شخص ما أى سيمفونية أو يكون حتى قادرًا على تلقي شيئًا منها، ما لم يكن من قبل على معرفة نظرية وخبرة عملية بطبيعة الهارموني متعدد الأصوات، وما يميز بناءه عن بناء مجرد اللحن؛ وما لم يكن على معرفة بطبيعة بناء السيمفونية وما يميزه- ولو على وجه الإجمال- عن بناء الكونشرتو وبناء الصوناتا؛ وما لم يكن يعرف طبيعة التعبير في الموسيقى الخالصة (التي تستخدم الآلات وحدها)، وما يميزه عن طبيعة التعبير في الموسيقى التي تصاحبها كلمات، كما في الأغنية والأوبرا. على أن هذه المعرفة المسبقة هي بمثابة شرط الاندماج الشعوري الذي لا ينبغي أن يبقى مجرد حالة عاطفية من التأثر التي تستولي على أحاسيسنا ومشاعرنا بفعل الاستغراق في المظاهر الحسية. فمثل هذا الشعور لا يمكن أن يبلغ تمام نضجه إلا من خلال شرط المعرفة سالف الذكر. غير أن الثقافة الفنية تعني أيضًا فهم السياق التاريخي للعمل الفني، مادام أن كل عمل فني قد أُبدِع ليقول شيئًا ما لمتلق ما في عصر ما: فالعمل الفني، ومن ثم النص الأدبي، لا تكمن دلالته في شكل مجرد كما يزعم الشكلانيون، وإنما في معناه الذي يخاطب متلقيًا أو قارئًا متعينًا، أي يخاطب قارئًا زمانيًا يحيا في عالم معيش، وليس قارئًا لازمانيًا مجردًا. وهذا هو المعنى الذي ينبغي أن نفهم به تاريخية النص الأدبي (والعمل الفني عمومًا): فتاريخية النص تعني- كما عبر عن ذلك ببلاغة بعض الباحثين- أن النص قد كُتِب بواسطة شخص ما، عن شيء ما، كيما يقرؤه شخص ما... ومن المستحيل أن نستبعد تاريخية النص دون أن نختزله بذلك إلى ظاهرة طبيعية من قبيل الأمواج في البحار؛ لأنه حتى الصخور يكون لها تاريخ چيولوچي. ومن الضروري أن نلاحظ أن تاريخية العمل الفني لا تعني نسبية حكم الذوق أو حكم القيمة، وإنما تعني أن المتلقي للعمل ينبغي أن يكون قادرًا على تأويله بالنسبة إلى السياق الذي يعيش فيه. ولا شك في أن كل عمل فني فيه شيء من عصره، ولكنه فيه أيضًا شيء يتجاوز عصره. وفي هذا معضلة كبيرة يواجهها المتلقي فيما يواجهه من معضلات؛ ومن ثم فإن المتلقي ليس مجرد مشارك سلبي يستقبل العمل ويفهمه كما لو كان يتلقى ويفهم رسالة من المبدع ليس لها سوى معنى واحد مطلق لازماني! فاعلية المتلقي في فهم إبداعية العمل الفني إن المعضلات التي يواجهها المتلقي تُلزِمه بألا يكون متلقيًا سلبيًا للعمل، بل مشاركً إيجابيً (أو ما يُسميه الألمان Mitspieler)، أي مشاركً فاعل يسهم مع المبدع في تأسيس إبداعية العمل الفني! ومن المعضلات الكبرى التي يواجهها المتلقي: محاولة المواءمة بين السياق التاريخي للعمل والسياق التاريخي الذي يوجد هو نفسه فيه. ولكن هذا بعينه هو مناط العبء الذي يكون مفروضًا عليه كما لو كان معاناة ينبغي أن يخوضها، جزاءً لما حصل عليه من معرفة تجعل موقفه متميزًا عن موقف أولئك المتلقين الذين يجهلون العالم أو الأفق الذي كان يتحرك فيه العمل. غير أن المَهمَة التي تكون ملقاة على عبء المتلقي هنا هي أن يرفع العمل الفني إلى حالة حضور بحيث يصبح قابلاً للتطبيق على عالمه المعيش، أي أن يجعل أفق العمل الفني مندمجًا ومنصهرًا في أفق عالمه. وربما يقتضى هذا- فيما يقتضى- أن يُسقِط المتلقي المدلولات الرمزية المباشرة والمرتبطة بالأفق التاريخي الخاص بالعمل، ليحمِّلها بمدلولات أخرى مرتبطة بواقعه المعاصر الذي يعيشه (وهذا ما يمكن أن نسميه «عصرنة النص»، أي رفع أفقه إلى حالة حضور دائم، بحيث يبدو معاصرًا لواقعنا الراهن). غير أن أهم المعضلات التي يواجهها المتلقي- وربما تكون أول ما يواجهه- هو أن المدلولات التي يرمز إليها العمل لا تكون معطاة بشكل مباشر، وإنما بشكل ضمني وإيحائي. ذلك أن كل عمل فني؛ ومن ثم كل عمل أدبي، هو صياغة تخطيطية تنطوي على مواضع من اللاتحدد أو الفجوات التي تنتشر عبر طبقات العمل الفني: إن هذه المواضع تكون مقصودة لإبداع «نص مفتوح» يترك مساحة لخيال القارئ كي يقوم بملء تلك الفجوات في تصوير الشخصيات والأحداث والمتصل الزماني المكاني؛ وبذلك يصبح مشاركًا للمؤلف في تأسيس العمل كموضوع جمالي. ولكن، ما الذي يمكن أن يكفل للمتلقي أن يفي بهذه المهمة الملقاة على عاتقه؟! ربما كانت الضوابط الأخلاقية التي تحكم عملية الفهم والتفسير، هي ما يمكن أن يجعلنا- كمتلقين- بمنأى عن الوقوع في الزلل. أخلاقيات تأويل العمل الفني من البديهي أن أخلاقيات تأويل العمل الفني لا تعني تفسير العمل تفسيرًا أخلاقيًا، وإنما يعني أن فهمنا وتفسيرنا للعمل له ضوابط ينبغي الالتزام بها، كي يمكننا أن نزعم أننا استطعنا تلقى العمل وتأويله بشكل مشروع يفي العمل حقه. حقًا إن هناك إمكانية دائمة لتعدد تفسيرات العمل، بمعنى أن كل عمل أصيل يكون فيه من الخصوبة بقدر ما يسمح من تعدد التفسيرات. ذلك أن العمل الضحل أو ضئيل القيمة هو ذلك الذي يحتمل تفسيرًا واحدًا؛ ومن ثم يجافي طبيعة التعبير الفني التي تكون دائمًا مراوغة وإيحائية وغير مباشرة: فالعمل الفني يكون دائمًا حمَّال أوجه! ومع ذلك فإن تعدد التفسيرات لا يمكن أن يكون بلا نهاية، وإلا كنا بإزاء نوع من النسبية المطلقة أو الساذجة التي تجعل كل التفسيرات ممكنة من حيث أهميتها وقيمتها! فمشروعية أي تفسير ينبغي أن تستند إلى ما يبررها في العمل أو النص؛ ومن هنا فإن هناك أسبابًا أو مبرراتٍ وجيهة تلزمنا بتفضيل تفسير معين على غيره. ومن تلك الأسباب أو المبررات ما يُسمى ثقل الدليل النصي، بمعنى مدى ما هنالك في العمل أو النص من وقائع وملامح تتردد على أنحاء شتى بحيث تبرر مشروعية تفسيرنا. إن المتلقي يجب أن يكون موجهَّا بما يكون هناك في العمل، بحيث لا يفرض عليه تصوراته الخاصة، أخلاقية كانت أو دينية عقائدية أو سياسية أو أيديولوچية. ومعنى هذا أن المتلقي أو المفسر لا ينبغي أن يفرض سلطته على النص، وإنما ينبغي أن يخضع «لسلطة النص» ذاته. غير أن هذا الخضوع أو الانصياع لا يعني أن المتلقي ينبغي أن يكون صامتًا أو سلبيًا إزاء النص، وإنما يعني أن المتلقي ينبغي أن يُنصِت إلى ما يقوله العمل أو النص وإن أضمره فيما بين سطوره وإيماءاته المرئية. غير أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال حالة حوار حقيقي بين المتلقي والنص. والحوار يعني دائمًا تحقق علاقة حميمة بين طرفين يسعى كلاهما إلى بلوغ تفاهم أو فهم مشترك. ولذلك فإن من أخلاقيات الحوار الذي ينبغي أن يتأسس بين المتلقي والنص أو العمل، ألا يتعامل المتلقي مع العمل من خلال نوع من التفكير الأداتي الإستراتيچي الذي يوظف العمل لخدمة أغراض عقائدية أو سياسية أو أيديولوچية؛ ومن ثم يوجهه إلى وجهة ما قد لا ينطوي عليها أو يشي بها؛ ومن ثم لا يُنصِت إلى ما يقوله ولا يتيح له فرصة ليتحدث عن قصدياته وينصت إلى ما يقوله بمنأى عن أي أغراض مستترة. وتلك سمة «التفاوض» الذي يكون بين الأعداء والخصوم أو على الأقل بين أصحاب المصالح، لا سمة «الحوار» الذي يشبه الحوار الذي يكون بين الأصدقاء والذي يسعى فيه كل طرف إلى فهم الآخر دون أغراض مسبقة. هذا قليل من كثير، ولكنه مما يجب أن يُقَال.