منذ 25 مايو الماضى تاريخ انتهاء ولاية الرئيس اللبنانى السابق ميشال سليمان، فشل البرلمان اللبنانى حتى الآن فى انتخاب رئيس جديد، وسط انقسام حاد بين الكتلتين الرئيسيتين فى البرلمان والساحة السياسية بشكل عام كتلة 14 آذار (مارس) التى تضم تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، وحلفائه وأبرزهم «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع التيار المسيحى الذى خرج من رحم حزب الكتائب، وكتلة 8 آذار التى تضم حزب الله وحلفاءه وابرزهم التيار الوطنى الحر بزعامة ميشال عون. ولأن منصب رئيس الجمهورية من حق الطائفة المارونية، فقد طرحت كل كتلة حليفها المارونى الأبرز لهذا المنصب، فرشحت قوى 14 آذار سمير جعجع، وقوى 8 آذار ميشال عون، وفشل كلاهما فى الحصول على النصاب الدستورى المطلوب فى مجلس النواب، لانقسام الأصوات بين كتلتيهما. ورغم أن موضوع اختيار الرئيس اللبنانى أعقد من مجرد الخلاف بين القوى السياسية اللبنانية، ويرتبط دائما ببعض الملفات الخارجية ومواقف الدول الإقليمية والدولية المعنية بالوضع اللبناني، إلا أن سعى الطائفة المارونية لحل الخلافات بين القوى السياسية المعبرة عنها والتوافق على رئيس للجمهورية يمثلها، كان دافعا لمباحثات سرية قد تسفر عن لقاء قريب يجمع الخصمين المتنازعين على رئاسة الجمهورية وزعامة الطائفة المسيحية. .. جعجع وعون. فى هذه الأجواء يتزايد الظهور السياسى لزعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع بشكل ملحوظ على الساحة اللبنانية، وهو الذى كان منذ سنوات قليلة فقط معتقلا فى سجن وزارة الدفاع لمدة 11 عاما، ولم يفرج عنه إلا بعد خروج القوات السورية من لبنان، وقد عايشت بنفسى فى بيروت عن كثب خلال فترة عملى هناك لحظة الإفراج عن جعجع وماسبقها من مباحثات، وكل الوضع المتفجر وعملية التغيير التى شهدها لبنان نتيجة زلزال اغتيال رفيق الحريرى عام 2005 . والحقيقة أن جعجع ظل لفترة طويلة لغزا بالنسبة لي، فالرجل هو الوحيد من أمراء الحرب اللبنانية الذى ظل سجينا حتى انتهاء الوصاية السورية على لبنان، رغم أن الباقين تمتعوا بعد الحرب بالنفوذ السياسى والاقتصادى المتزايد، كما ارتبط اسمه بعديد من الاغتيالات والتفجيرات ، ورغم أن معظم هذه الحوادث وقعت خلال الحرب الأهلية التى شاركت فيها جميع الأطراف اللبنانية، وطعن دفاع جعجع بأنها مشمولة بقانون العفو العام الذى صدر عام 1991 لانهاء كل الآثار المترتبة على الحرب الأهلية، إلا أن الغموض مازال يحيط بكثير من الحوادث والأحداث التى ترتبط بهذا الاسم. لذلك كان شغفى بأحدث كتاب وصلنى من بيروت منذ أيام وهو «سمير جعجع حياة وتحديات» للناشطة الحقوقية ندى عنيد.. الذى يرصد مرحلة مهمة من تاريخ لبنان لكن بطريقة مختلفة، فهو اختار سيرة جعجع ليسرد من خلالها الاقتتال الداخلى فى لبنان، ثم اتفاق الطائف وما تبعه من هيمنة سورية كاملة، ووصولاً إلى اغتيال رفيق الحريرى ، فالكاتبة اختارت لحظة اعتقال جعجع مساء الخميس 21 إبريل 1994، لتكون البداية فهى ترصد بالتفصيل انتظار جعجع تنفيذ قرار باعتقاله، خاصة بعدما صدرت صحيفة اللواء اللبنانية بمانشيت «اتجاه لاستحضار جعجع خلال ساعات»، وهو ما تيقن خلاله من أن مآله إلى الاعتقال، خاصة وأن القيادات الأمنية الموالية لسوريا لم تكن على وفاق معه، وفى نيتها تحميله عددا من الجرائم التى ارتكبت فى حينها، ومنها قتل رشيد كرامى، ومجزرة دانى شمعون وعائلته، وتفجير كنيسة سيدة النجاة .. ولم يستمع جعجع لنصائح القريبين منه أو رسائل الرئيس اللبنانى آنذاك إلياس الهراوى بمغادرة بيروت إلى أى وجهة يريدها، خاصة بعدما سمع الهراوى من نائب الرئيس السورى عبد الحليم خدام حينما التقيا فى دمشق نوفمبر 1993 قوله إنه «ينبغى بأى ثمن الانتهاء من قائد القوات اللبنانية». ويذكر جعجع المحاولة الأخيرة للتوافق مع السوريّين التى لم تُكلّل بالنجاح. كان ذلك فى يناير 1994، حين زار القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد فى شمال سوريا، لتقديم تعازيه للرئيس بوفاة نجله البكر باسل الأسد فى حادث مروري. انصبّ الاهتمام بالكامل يومها على زيارة قائد القوّات اللبنانيّة وبقيت كلّ الأنظار موجّهة إلى جعجع الجالس فى صفوف الزوّار الرفيعى المستوي. ويُذكر أنّه حين خرج يومها تحت المطر من صالة التعازي، بادره اللواء الركن غازى كنعان عارضًا عليه زيارة دمشق افى أقرب وقتب لتسوية المشكلات العالقة بين حزبه والنظام السوري، وكان جواب جعجع واضحًا وقاطعًا: «جئت لمواساة والد مفجوع، لا لإنكار مبادئى أو الموافقة على ما هو مرفوض». والمرفوض كان «معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق» التى فرضتها سوريا على لبنان من أجل تكريس هيمنتها على بلد الأرز. وقضى جعجع عدة سنوات فى ظروف سجن قاسية، حتى توسط جورج حاوى الأمين العام السابق للحزب الشيوعى اللبنانى لدى دمشق على الأقل لتحسين تلك الظروف، وبدأ لبنان يشهد تغيرات جديدة بدءا من محاولة اغتيال النائب مروان حمادة قبل ساعات من صدور تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1559 حول لبنان، والذى طالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان وحل جميع الميليشيات، ثم كان التغيير الكبير مع مقتل رفيق الحريرى الذى أدى إلى انسحاب القوات السورية من لبنان وتوالى الاغتيالات السياسية التى طالت معارضى الوجود السورى ، ثم كانت لحظة الانطلاق الجديدة حينما حصل جعجع على عفو من البرلمان فى 18 يوليو 2005 تحت ضغط شعبي، وبعدما قضى أكثر من 11 عاماً فى السجن. التفاصيل كثيرة، لكنى أعتقد أن حزب القوات اللبنانية وعلى رأسه سمير جعجع مازال بحاجة إلى ايضاح موقفه الآن من كثير من الأوضاع التى تمر بها الأمة العربية، من الصراع العربى الإسرائيلي، إلى العمل العربى المشترك، والمتغيرات الناجمة عن ثورات الربيع العربي، وغيرها، لإزالة اللبس الذى قد يكون ناتجا عن مواقف جرت فى سياق تاريخى مختلف. كلمات: ليست العظمة فى ألا تسقط أبدا، العظمة أن تنهض كلما سقطت. كونفوشيوس لمزيد من مقالات فتحي محمود