تنفجر الآن فى وجه العالم بوتيرة متصاعدة وحشية »الصحوة الإسلامية«، لتشكِّل وجه الإسلام الأبرز أمام العالم، سبيا وقتلا بالجملة والقطاعي، وغدرا بالسيارات المفخخة و«القنابل محلية الصنع«، فضلا عن الإعلان عن مشاريع عدوانية لغزو العالم وإخضاعه، عنوانها تجريد غير المسلمين، وغير أهل السُنَّة، وغير الأصوليين الإسلاميين، وكذلك النساء، من حقوق المواطنة، وهذا كله بالاستناد إلى مختارات من التراث الإسلامى الفقهى والعقائدى الهائل المتنوع. لأول مرة، يشير رئيس مصرى لهذه الحقائق، ويطرحها بوصفها مشكلة تستدعى مواجهة.. لكن المواجهة لن تكون جديرة بهذه الصفة ما لم تتجاوز مخاطبة الأزهر إلى محاسبة الدولة لنفسها على دورها المحورى فى تغذية «الصحوة». ما دمنا بصدد المصارحة والمواجهة، ينبغى القول بأن «الصحوة» وإن كان لها بطبيعة الحال جانبها العقائدي، أى تفسيرها الأصولى للإسلام، فإنها قامت على دعائم سياسية أسهمت قوى كثيرة فى صنعها بشكل مباشر، أو التغاضى المتعمد عنها، أو مسايرتها ومنافستها، بما أدى لتعميقها. على الصعيد الدولي، أسهمت الولاياتالمتحدة بقوتها الجبارة فى دعم الأصولية، بدءا بدعم الوهابية فى مواجهة الناصرية، أو النظام الباكستاني، أو جماعات الصحوة التى تجمعت تحت الراية الإسلامية والتدريب والتسليح الأمريكى فى أفغانستان، وليس انتهاءً بمشروعها لتسليم المنطقة للإخوان. وسواء فى عهد الاحتلال البريطاني، أو فى عهد الاستقلال، أسهمت السراى المصرية، المَلَكية ثم الجمهورية، فى ذلك. دعَّم الملك وأحزاب الأقلية الإخوان لضرب الوفد، ودعَّم السادات الصحوة الإسلامية ككل فى السبعينيات لضرب يسار نظام يوليو وحلفائه، ودعَّمت أجهزة مبارك الأمنية الإخوان فى مواجهة الجهاديين، ثم دعَّمت السلفيين فى مواجهة الإخوان حين بدأت اتصالاتهم الخارجية تشكل خطرا على نظام تابع وفاسد وفاقد للثقة والاعتبار. هذا فضلا عن أثر التحالفات الخليجية فى دعم الوهابية فى الداخل. لكن علاقة السراى المصرية بالأصولية أعمق من قيام التحالفات الضمنية أو الصريحة. رغم مطاردة العهد الناصرى للإخوان فى سياق السيطرة الشاملة على المجال العام، دعَّمت الناصرية ما يمكن تسميته «تسييسا مضادا» للإسلام، بطرح وتشجيع دعاية مؤداها أن الإسلام دين التقدم، ودين الوطنية، ودين التحرر، ثم دين الاشتراكية فى الستينيات. وجدير بالذكر أن ربط الإسلام بالاشتراكية ورثه النظام مباشرة من الإخوان، حيث نظَّر له بعض مفكريهم من قبيل محمد الغزالى وسيد قطب ومصطفى السباعى فى كتب مشهورة. وبصفة أعم، تم تجنيد الأزهر والمؤسسات الدينية للدعاية لسياسة النظام أيا كانت، من تحديد النسل إلى مقاومة دودة القطن، فضلا عن تبرير و«أسلمة» توجهات النظام وشعاراته الأساسية. الأسوأ أن هذه المفارقة ما زال يعتمدها حتى الآن كثير من صحفيى وكُتَّاب التيار القومى واليسار القومي: استنكار الأصولية وخلط الدين بالسياسة، وفى الوقت نفسه الدعوة إلى اختراع وتوظيف طبعات «وطنية» أو «تقدمية» للإسلام. وعلى مستوى أجهزة الدولة، فإنها قد تلاحق الآن من يدعو للإخوان على المنابر، لكنها لا تستنكر من يدافع عن النظام عليها. وبهذه الطريقة يتم بذر الأصولية بذرا، بالإيحاء المستمر للجمهور بأن السياسة تستمد شرعيتها من الخطاب الإسلامي. من وجهة النظر هذه، تجاوَزَ طرح الرئيس السيسى للإصلاح الدينى مجمل تراث »السراى الجمهورية« الذى يجب تصفيته أولا إذا أردنا حقا أن نواجه الداعشية بدرجاتها المخففة والمركزة التى تشمل كل توجهات الإسلام السياسى وكثيرا من توجهات الإسلام الدعوي. لكن، للأسف، ما زالت قوى عديدة تعمل لإعادة إنتاج تراث الدولة الأصولي، بإنتاج وترويج طبعة »موالية«، وبالتالى سياسية، من الإسلام، بعد النقلة الجبارة التى حققتها ثورة 30 يونيو فى الوعى العام فى اتجاه ضرورة فصل الدين عن الشعارات والتوجهات السياسية، والحذر التلقائى الذى تكوَّن عند الناس تجاه الكلام فى السياسة باسم الإسلام. سواء تكلمنا عن السياسة الأمريكية أو السعودية أو الباكستانية أو تراث »السراى الجمهورية« أو المَلَكية، كان المبدأ العام هو شراء ولاء الأصولية، أو مواجهة مجموعاتها التى تحمل سلاحا ضد النظم السياسية، ببيع الشعوب - أى الجمهور - لها. بهذا المنطق تُرِكَ للأصوليين فى مصر فرض الحجاب فرضا، حتى فى مدارس الدولة ومؤسساتها، وعاثوا فسادا، خطابةً ونشرًا، حضّا على العداء تجاه غير المسلمين، أو تأكيدا لفكرة الحاكمية، أو ترويجا ل«فريضة« التحكم الشامل فى النساء، إلخ، بالإضافة إلى إبراز سطوتهم، مثلا بتركيب أقوى الميكروفونات على المآذن، أو إطلاق صيحات التهديد تجاه المفكرين، بما أدى إلى اغتيال بعضهم، لتصبح »الصحوة« عمليا فوق القانون. على هذا النحو تغلغل خطاب الكراهية القمعى الأصولى فى المساجد، ووصل إلى مقررات الدراسة الأزهرية، وفى كليات الآداب والحقوق وغيرها، وصولا إلى المحاكم، التى شهدت صدور عدد متزايد من الأحكام ذات المرجعية الأصولية، وامتد إلى البرامج التليفزيونية، ليس فقط فى الفضائيات، بل تليفزيون الدولة، بلا مراقبة أو محاسبة. لا توجد ألفاظ مناسبة أو كافية لوصف سياسة السراى المَلَكية والجمهورية لدرء مخاطر الأصولية المباشرة، أو حتى التحالف معها، بصفقة مؤداها إنقاذ جلده الخاص بتسليم السلطة الأيديولوجية لها، ووضع الشعب تحت هيمنة الصحوة، ليكشف صراحة عن كونه نظاما لا يعبر إلا عن نفسه، وتقتصر اهتماماته على حماية حكامه وأجهزته الأمنية. فكان طبيعيا حين امتلأ الجسد الوطنى بالصديد أن ينفجر فى النهاية فى وجه النظام. خلاصة الأمر أن قضية الإصلاح الدينى لا تتعلق فقط بتفسير الإسلام، أو الاجتهادات الفكرية (وبالمناسبة فإن هذه الاجتهادات متوافرة بالفعل، أسهمت فيها عقول عديدة، مصرية وعربية، عبر عقود)، بل أيضا، فى المقام الأول، قضية إصلاح سياسى عميق لتطهير «السراى الجمهورية» من مواريث ثقيلة لعبت الدور الأهم والأكثر بقاءً فى دعم صعود «الصحوة الإسلامية»، حتى وهى تقاتل مجموعات جهادية أو غيرها. قضية الإصلاح الدينى هى قضية حماية الدولة لحرية العقيدة ولحق الاجتهاد، ومطاردة خطاب الكراهية الأصولى ومحاسبة مروجيه بصرامة القانون، فى المسجد والجامعة والقناة الفضائية، بل فى مجلات الأزهر (للأسف)، وكفالة حقوق وضمانات النقاش الحر. لقد صارح الرئيس السيسى الأزهر بعمق المشكلة الأصولية الكارثية وجذورها فى التراث، وبقى أن تصارح الدولة نفسها بمواريثها الثقيلة فى الإفساد الدينى والسياسي. باختصار، الإصلاح الدينى يبدأ بإصلاح الدولة لنفسها. لمزيد من مقالات شريف يونس