بدت الطائرة مختلفة هذه المرة، فالرحلة صوب بلد قصى فى الشمال المغربي( تطوان)، والمسكونة بحركة إبداعية نشطة، وجهد علمى بارز لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ولفرقة البلاغة وتحليل الخطاب ومؤسسها الدكتور محمد مشبال، بدا كل شيء عاديا منذ البداية: النداءات المتكررة على أرقام الرحلات ووجهاتها، والانتظار الملول قبل الإقلاع، ومدة الرحلة التى امتدت لخمس ساعات، لكننى فور الوصول لم أكن أشعر أن الغربة والحنين يرافقانى منذ البداية لوطنى الحبيب الذى قدم أسماء لامعة لنقاد كبار ومؤثرين فى خريطة المشهد الإبداعى العربي: طه حسين، شكرى عياد، محمد مندور، لويس عوض، مصطفى ناصف، عبدالقادر القط، على الراعي، وغيرهم، ولم يخفف من الغربة سوى الوجه الباسم للباحث الشاب رشيد شجيع الذى كان فى استقبالي، فى مطار محمد الخامس، والذى دبر لى كل شيء فى الدار البيضاء التى بدت عاصمة اقتصادية بامتياز، ووصولا إلى تطوان التى استقللت الحافلة إليها عبر ست ساعات أخرى حضر فيها التطوانى الآخر عدنان التاغي، الذى بدا محبا لمصر وفرحا بلهجتها التى لم تفارقنى سوى فى الجامعة نفسها حيث حضرت العربية بوصفها لغة أصيلة للعلم والمعرفة، وفى تطوان نفسها وجدت الباحثين والكتاب المغاربة فى انتظاري: الدكتور محمد مشبال، والدكتور الإمام العزوزي، والروائى هشام مشبال، والدكتور عبدالواحد العلمي، وصولا إلى فندق بديع فى الطريق الواصل ما بين تطوان وسبتة الواقعة تحت الاستعمار الإسباني، ومنذ اللحظة الأولى حضرت مصر بناسها وجماهير شعبها والتحولات السياسية والاجتماعية التى مرت بها، وثورتيها المجيدتين. دخلت جامعة عبدالمالك السعدي، وفى الطريق وجدت أساتذة ومثقفين وكتابا، و حفاوة تليق بى وبمصر، وبتطوان وثقافتها، كان كل شيء منظما، يحكمه إطار منهجي، واعتبار حقيقى لقيمة الوقت، والجلسات العلمية ذاتها خلت من الرطان الفارغ إلا قليلا. كنت فى الجلسة الافتتاحية الأولي، وامتلأت القاعة الكبرى فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأساتذة وباحثين وكتاب وطلاب، وبدأ محمد مشبال فى تقديمى ووجدت نفسى أستشعر المسئولية ذاتها التى لازمتنى منذ وجهت لى الدعوة من شهور بعيدة، فمشبال يتكلم ويسهب فى تقديمى وأنا تدور فى رأسى صور عن نقاد عظام قليلين فى الحقيقة لطالما رفدوا النقد العربى بإسهامات جادة وحقيقية، صنعت تحليلا نقديا لروايتين مغربيتين مختلفتين، وهما: (خريف العصافير) للروائى خالد أقلعي، و( مدارات الغربة والكتابة) للكاتب أحمد المخلوفي، وهما روايتان تعبران عن حيوية المشهد السردى الراهن فى تطوان، وبدت الرواية الأولي» خريف العصافير» ببطلها الإشكالى ( جعفر) مثارا لجدل خلاق شهدته أروقة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان عقب مداخلتى النقدية التى صنعت مقاربة نظرية وتطبيقية، سعت لتحديد البنيات الأساسية والمهيمنة التى انشغل بها الكاتب فى نصه، والتقنيات السردية التى اعتمد عليها، بدءا من توظيفه الاستهلال السردى الذى يبدو بمثابة التقديمة الدرامية للنص، حيث يحدد الكاتب أزمنته وأمكنته بدقة (18 مايو 1994/ فندق النخيل) ، كما يشير إلى شخصيته المركزية «جعفر»، إلى مأساته ورجعيته ومأزقه فى آن، فجعفر المفخخ والمكلف من قبل أمير جماعته الظلامية الإرهابية لتفجير الفندق/ مكان الفعل السردي)، لا يعبأ بتفجير نفسه طمعا فى شهادة متوهمة، جراء وعى بائس ومتطرف بالمعتقد الديني، ربما كشفت عنه فيما بعد الحوارات السردية الدالة التى دارت بينه وبين (سى علال ) زوج أمه، والكاشفة عن تمايز حقيقى ما بين رؤيتين للعالم، وبما يعنى أيضا أن الحوار هنا بات جزءا أصيلا من الرؤية السردية للنص، كانت المداخلة كفيلة بإيجاد نقاش جاد عن طبيعة الجماعات المتأسلمة، ودورها فى التكريس للتخلف داخل عالمنا العربي، فى ظل ما أراه من أن هذه القوى الرجعية تتحالف مع مراكز الاستعمار فى العالم، ومن ثم تبدو ظهيرا للإمبريالية من جهة، وللماضى البائس من جهة ثانية. كان السياق العام مدهشا، خاصة مع الجلسات البحثية التى عقدت فى أمكنة ثقافية كبيرة خارج الجامعة، وبما يعزز من فكرة الربط بين العلم والمجتمع، أو الدرس الأكاديمى والواقع الثقافى الراهن، فكان الحضور البارز لمركز الأندلس فى اليوم الأول للمؤتمر، ثم كان اليوم الثانى الذى بدا لى مختلفا بامتياز. فى ( بيت الحكمة) بوسط تطوان كان هناك لقاء مفتوح معى عن السرد الروائى والقصصى فى تطوان، بدا كل شيء مثاليا، وإنسانيا فى آن، عشرات الكتاب والمثقفين المغاربة تزخر بهم القاعة، معهم أيضا عشرات الباحثين والطلاب، فى مشهد دال يعيد الاعتبار لجملة من القيم الفكرية والإبداعية، كان هناك كتاب حقيقيون: محمد أنقار، البشير الدامون، عبدالجليل التهامى الوزاني، البشير الأزمي، خالد أقلعي، محمد بروحو، هشام مشبال، فاطمة الزهراء الرغيوي، محسن أخريف، وغيرهم كثيرون، فى الجلسة البحثية التى أدارها الدكتور الإمام العزوزي، وبدأت مشيرا إلى الملامح العامة للسرد فى تطوان، ومحاولا تطوير النقاش النقدى إلى سؤال أكثر عمقا يتعلق بما سميته: (كتابة البيئات المحلية)، والذى اعتبرته سؤال المؤتمر بامتياز، منطلقا من رمزية أن تحكى تطوان. وبعد.. تطوان تحكي، إذن فأرض المدامع تحكي، فتكشف لنا الهواجس، وتعرى المسكوت عنه، وتوجدمساحات إنسانية مضافة إلى متن السردية المغربية والعربية، وتبدو بحسب نصوصها السردية المختلفة تقدم روحا جديدة تغالب الخوف وتعانيه، فتبدو قريبة من ضفة أخري، وتتوق إلى الحرية، وترقص خمس رقصات كل ليلة، وتتكيء رمايتها على شيخ مكين، وتعاند شراك الهوي، وتحرث أرضا من ماء ودم، فتبقى طائرا حرا، أو خريفا للعصافير، أو مدارات للغربة والكتابة، أو مناضلا لم يزل يبحث عن فريد الأطرش فى مظاهرة احتجاجية تسائل الواقع المحلي. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله