تقليدياً استخدم مصطلح العالم «الحر» للدلالة على المعسكر الغربى الليبرالى الذى تقوده الولاياتالمتحدة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى والمعسكر الشيوعي، إلا أن عالما حرا جديدا برز بقوة خلال السنوات القليلة الماضية، ويتمثل فى مجموعة الدول التى أعلنت رفضها للغطرسة الأمريكية ومعاييرها المزدوجة فى إدارة الأزمات الدولية والإقليمية، واستطاعت التحرر من الهيمنة الأمريكية وتحجيم الولاياتالمتحدة وإعاقة حركتها فى مواقف عدة كان أبرزها أزمة أوسيتيا الجنوبية عام 2008 والأزمة السورية منذ مارس 2011 ثم الأزمة الأوكرانية التى بدأت نهاية 2013 ومازالت تلقى بظلال واضحة ليس فقط على العلاقات الروسية الغربية وإنما على مجمل النظام الدولي، الذى يشهد تغيرات جوهرية. لقد أصبح التحول إلى عالم متعدد القوى حقيقة لا يمكن تجاهلها، والقطبية الواحدة أصبحت من الماضي. وهناك انقسام دولى جديد بين كتلتين بمعطيات وأسس يغلب عليها الطابع المصلحى البراجماتى حيث الانضمام إلى أى من الكتلتين طوعى على أساس تقارب المصالح والرؤى وليس أيديولوجياً قسرياً. وتضم الكتلة الأولى الولاياتالمتحدة وشركاءها فى أوروبا وآسيا. وتضم الثانية روسياوالصين وشركاءهما فى آسيا وأمريكا اللاتينية من الدول غير الراضية عن السياسات الأمريكية وتتطلع لوضع أفضل فى النظام الدولي. يعزز هذا التوجه التراجع النسبى فى القدرات الأمريكية لأسباب عدة أهمها تفاقم مشكلاتها الاقتصادية فى ضوء الأزمة المالية منذ عام 2008، والاجتماعية بعد تفاقم قضية التمييز العنصرى ضد السود داخلها، إلى جانب فشلها فى إدارة حملاتها العسكرية فى أفغانستان والعراق، وكذلك فى الملف السوري، وتعثر حملتها ضد داعش، وتراجع الثقة والمصداقية فى الرئيس أوباما بعد عجزه عن إدخال كثير من وعوده حيز التنفيذ، يتزامن هذا مع ميل واضح فى ميزان القوة الاقتصادية لمصلحة القارة الآسيوية فى ضوء الأجيال المتتابعة من النمور الآسيوية، وكون الصين ثانى أكبر اقتصاد عالمى وتنافس بقوة للصعود للمركز الأول، إلى جانب الهند واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من الاقتصادات العالمية. وقد عكست قمة منتدى التعاون الاقتصادى لآسيا والمحيط الهادى (آبيك) الأخيرة فى نوفمبر ببكين أحد أبعاد هذا الانقسام الدولى حيث ركزت الولاياتالمتحدة على مبادرتها بعنوان «الشراكة عبر المحيط الهادئ» التى تستهدف إقامة منطقة تجارة حرة بين 12 دولة فقط من دول المنتدى الإحدى والعشرين وهي: أسترالياوالولاياتالمتحدة وبروناى وتشيلى وكندا وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام واليابان، وتستبعد منها روسياوالصين. فى حين هاجمت موسكو وبكين المبادرة واعتبرتها محاولة جديدة من الولاياتالمتحدةالأمريكية لبناء هيكلية تعاون اقتصادى إقليمية تعود بالمنفعة عليها، ورأت أنه من الصعب إقامة تعاون اقتصادى تجارى فعال بين دول المجموعة فى غياب لاعبين دوليين كبيرين مثلهما. ومن المعروف أن هناك تعاونا استراتيجيا قويا بين روسياوالصين يمثل القوة الدافعة والقائدة لمحور التحدى للولايات المتحدة اقتصادياً واستراتيجياً. فقد كان لقاء زعيمى البلدين فى نوفمبر على هامش قمة دول آسيا والمحيط الهادى هو الخامس خلال عام 2014، وتخلل ذلك وأعقبه زيارات عدة لمسئولين من الجانبين، كان من أبرزها زيارة رئيس مجلس الدولة الصينى لى كه تشيانج إلى روسيا فى أكتوبر من العام الجاري، والتى وقع خلالها 38 اتفاقية مشتركة للتعاون فى مختلف المجالات، أبرزها التعاون فى مجال الطاقة حيث تعول روسيا كثيراً على الصين فى إطار توجهها لتنويع أسواق الطاقة الروسية حتى لا تكون رهينة للتهديدات الغربية بتخفيض واردات الطاقة من روسيا، واتفق البلدان على توريد الغاز الروسى للصين لمدة 30 عاما بقيمة 400 مليار دولار عبر أنبوب «قوة سيبيريا». كما اتفق البلدان على مقايضة عملتى البلدين، الروبل واليوان، وإستخدامهما فى الحسابات التجارية الثنائية بديلاً عن الدولار. وسيكون لهذا تداعياته بالتأكيد على الاقتصاد الأمريكى خاصة فى حال نجاح التجربة وتوسيع نطاقها لتشمل دول أخرى غير راضية عن النظام الاقتصادى والمالى الحالي، نظام بريتون وودز الذى وضعته الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الغربيون منتصف الأربعينيات من القرن الماضي. وتعد مجموعة البريكس التى تضم روسياوالصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا ويبلغ إجمالى ناتجها المحلى 21% من حجم الاقتصاد العالمى وتمتلك ما بين 30% و60% من المخزون العالمى لمختلف الموارد، و40% من الاحتياطى العالمى من الذهب والعملات الصعبة، وكذلك منظمة شنجهاى للتعاون والتنسيق الأمنى التى تضم روسياوالصين ودول آسيا الوسطي، حجر زاوية لهذا المحور الذى سيمتد لجذب شركاء إقليميين فى منطقة الشرق الأوسط وغيرها. إن التوتر الحاد الذى تشهده العلاقات الروسية الأمريكية على خلفية الأزمة فى أوكرانيا هو انعكاس لصدام الإرادات وحرب تكسير العظام بين روسيا العائدة ومعها الصين الصاعدة بقوة وواشنطن التى تسعى جاهدة لعرقلة الاثنين والتحكم فى المارد الروسى الذى أفاق من غفوته. وسوف تأخذ الولاياتالمتحدة وقتاً حتى تستوعب المتغيرات الدولية والإقليمية وأن روسياوالصين أصبح أقوى وأكبر وتمثلان نداً حقيقياً لها، وأن عالم اليوم والغد لا يقبل لغة التهديد والوعيد والهيمنة الفردية لدولة أيا كان حجمها، وأن التعاون والشراكة والاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب هى السبيل الوحيد لتعزيز مكانة الدولة على الصعيد الدولي.