اسمحوا لى - حضرات القراء الكرام - أن اشبه الحوار الذى يدور هذه الايام بين النخب المصرية حول موضوع استصلاح مليون فدان يقع الجزء الاكبر منها فى الصحراء الغربية، اسمحوا لى أن أشبه هذا الحوار بمجموعة من البشر اجتمعوا لمناقشة موضوع ما فإذا بالجميع يتكلمون ولا ينصت واحد منهم للآخر أو للآخرين... والحق أن الموضوع جد خطير لأنه يمس حياة هذا الجيل وأجيال عديدة قادمة، ومن هنا فإن من لا يشكك فى ضمائر البشر يقول إن الجميع مخلصون، ولكنهم فى نفس الوقت مختلقون وربما كان الخلاف شديدا للحد الذى يظنه أحد المعسكرين أن أفراد المعسكر الآخر ربما لا يعرفون الكثير عن خفايا الموضوع و دواخله. وبداية أقول إن المعلن ثلاث مراحل للتنمية الزراعية: الأولى تشمل المليون فدان التى سنتحدث عنها فى هذا المقال تبلغ التكاليف التقديرية لها نحو 25 مليارا من الجنيهات أى بواقع 25 ألفا للفدان الواحد أما المرحلة الثانية والثالثة فتشملان تنمية مليون فدان فى الثانية ومليونين فى الثالثة وهاتان المرحلتان لا تزالان تحت الدراسة والبحث. تأتى المرحلة الأولى التى نحن بصدد العمل فيها فى الوقت الحاضر لا بل بدأ بالفعل وضع أسس توزيع أراضيها طبقا للبيانات الرسمية التى طالعتنا بها وسائل الاعلام خلال الأيام القليلة الماضية. والمرحلة الأولى كما تقول المصادر هى مرحلة عاجلة تشمل مناطق تم بالفعل دراستها وهى جاهزة للتنفيذ الفورى منها 100 ألف فدان فى منطقة توشكى تروى من مياه النيل عبر محطة الرفع المقامة على بحيرة ناصر وعلى مسافة تصل إلى 200 كم جنوب السد العالي، وهذه لا خلاف عليها يأتى بعد ذلك 100 ألف فدان جنوب وجنوب شرق منخفض القطارة ثم 450 ألف فدان فى واحات الوادى الجديد وتوشكى وشرق العوينات ثم 200 ألف فدان غرب محافظة المنيا و 150 ألف فدان أخرى فى محافظة البحيرة وكل هذه المساحات الأخيرة التى يصل مجموعها إلى 900 ألف فدان تروى بالمياه الجوفية وهذا هو موضع الخلاف بين المعسكرين ... وسأعرض فيما يلى بعضا من هذه الاختلافات وردود الجانب الآخر عليها وسأحاول من جانبى أن أقدم بعض الآراء والمقترحات التى قد تكون مفيدة للفريقين. أولا:ً الآبار المقترح حفرها يصل عددها إلى خمسة آلاف بئر زمام كل منها 200 فدان على وجه التقريب وتبلغ تكاليف حفرها عشرة مليارات من الجنيهات أى بواقع 2 مليون جنيه للبئر الواحدة فى المتوسط والسؤال الذى يطرح هنا هو : 1- هل لدى مصر من مقاولى حفر الآبار من يستطيع تقديم هذه الخدمة خلال عام واحد؟ والإجابة أنه يمكن الاستعانة بالخبرات الاقليمية والدولية 2- تحتاج 900 ألف فدان الى ما لا يقل عن 5 مليارات متر مكعبة من المياه سنوياً أى بمعدل 15 مليون متر مكعب يومياً أى أن انتاج كل بئر لن يقل عن 3000 متر مكعب يومياً أو نحو 200 متر مكعب فى الساعة وهذا الرقم قد يكون كبيراً إذا كان الضخ من خزان غير متجدد وإذا أمكن الوصول إلى هذه المعدلات فان معدل التناقص فى مستوى سطح الماء سيكون كبيراً مما سيؤدى إلى أن يزداد عمق المياه غوراً وبشكل متسرع وربما أدى ذلك إلى نضوب مياه الخزان خلال اعوام قليلة والتنمية الزراعية لا يمكن أن تكون مستدامة إذا توقف المشروع بعد قليل من السنين التى ربما يكون قد تم خلالها الدفع باستثمارات هائلة فى إنشاء البنية الأساسية والتحتية والفوقية وقامت خلالها مجتمعات بشرية وعمرانية ليس من السهل زحزحتها وهنا يبرز سؤال آخر مهم للغاية وهو أن الماء المختزن فى باطن الأرض ليس حكراً على هذا الجيل من المصريين، وإنما هو موروث شرعى لأجيال عديدة قادمة ثم إن الوضع غير السوى للعلاقة المصرية مع دول حوض النيل فى الوقت الحاضر تستدعى التريث لحين استقرار الوضع المائى. ثانيا: المساحات المقترح إصلاحها تعتبر شبه خالية من السكان، ومن الطبيعى أن ينتقل إلى هذه المواقع العديد من المواطنين الذين لا يقل عددهم عن خمسة ملايين قد يكونون فى الوقت الحاضر من الشباب الذى لم يصل إلى سن الزواج بعد إلا أن هذا الوضع لن يستمر طويلاً لان معظمهم إذا طاب له المقام فى مناطق الاستصلاح سيعمل على اقامة أسرة سرعان ما تصل بكل فرد إلى خمسة أفراد وبهذا تصبح الملايين الخمسة التى بدأنا بها عشرين مليوناً فى غضون سنوات قليلة أى حوالى تعداد صعيد مصر بالتمام والكمال فى الوقت الحاضر ولنا أن نتخيل حاجة هؤلاء للطرق و الاتصالات والطاقة الكهربائية ومياه الشرب والصرف الصحى والمستشفيات والمدارس والمصالح الحكومية والمساجد والكنائس وغير ذلك من الخدمات ونفقات توفيرها - أما إذا كان الاتجاه إلى تخصيص مساحات واسعة لكبار المستثمرين فإن الوضع سيكون مختلفا لأن مثل هؤلاء لديهم القدرة على العمل بقوانين تسليم المفتاح أى البدء بحفر الابار وربما وضع البنية الأساسية واستقدام العمالة والإنتاج والتصدير إلا أن نصيب الأسد سينتهى إلى هؤلاء وسيرضى المصريون بأكل القليل من فائض الطعام على موائد الكرام. ثالثاً: بدأت مصر برنامج استصلاح الأراضى الصحراوية فى بداية الستينيات من القرن الماضى بإنشاء مؤسستين هما تعمير الأراضى وتكفلت باستصلاح الأراضى على تخوم الوادى والدلتا ومؤسسة تعمير الصحارى وقامت على استصلاح أراضى الواحات (باريس- الداخلة - الخارجة - غرب الموهوب - أبو منقار الفرافرة - البحرية - سيوة ) فى الصحراء الغربية والواقع أن مليونين من الأفدنة تم استصلاحها على مياه النيل من جانب مؤسسة تعمير الأراضى إلا أن مؤسسة تعمير الصحارى قد أعلنت بوضوح أن التجربة لم تكن ناجحة بالقدر الكافى ولا أريد هنا أن أقيم تجارب لست أهلاً لتقييمها فقد حاولت أن أرصد مؤشرات تجارب عشتها بشكل شخصى خلال خدمتى فى إحدى المؤسسات. رابعاً: أنه بعد دفع كل هذه التكاليف وتحمل كل هذه المخاطر قد يأتى من يلقى علينا درساً فى الوطنية ويطالب بألا يكون هناك زراعة فى هذه المناطق إلا للمحاصيل الاستراتيجية من الحبوب والأعلاف وهذا هراء كبير أرجو من الله ألا ينساق أحد وراءه لأن هذا الماء الغالى الثمن والمرتفع القيمة والشديد النقاء والذى يمكن أن يستخرج من باطن الارض ليعبأ مباشرة فى زجاجات مياه الشرب النقية - هذا الماء يمكن أن يستخدم فى رى محاصيل نقدية عالية القيمة وأن تعد أسواق التصدير لهذه المحاصيل قبل زراعتها، وأن تكون المحاصيل قابلة للتصنيع مثل النباتات العطرية والطبية وإذا كان هناك بد من زراعة المحاصيل اللازمة لغذاء البشر فلا يكون ذلك إلا بقدر حاجات المقيمين بالمنطقة لهذه الأغذية. ختاماً كنت أتمنى أن تتبنى الدولة نفس المنهج الذى يحدث فى مشروع قناة السويس الجديدة وأن يأتى من يذكرنا يوماً بعد يوم بأنه قد تم اليوم حفر هذا العدد من الآبار وأيضاً تم تجهيز هذا العدد من الأفدنة للزراعة وتم رى هذه المساحة وتم حصد هذه الكمية من المحاصيل...... لكن ذلك لم يحدث لذا فقد بقينا جميعاً حتى هذه اللحظة ننعم فقط بحوار المليون فدان...... آسف حوار الطرشان و الله الموفق و المستعان. لمزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي